البارودي: بين التقليد والتجربة
بقلم: الدّكتور/ عبد الكريـم عبدالقـادر اعقيلان
يرتبط موضوع بعث الشعر العربي في العصر الحديث ارتباطاً وثيقاً بالشاعر محمود سامي البارودي. فإذا ذكرت النهضة، أو ذكر البعث، فلا بد من أن يذكر البارودي، فهو الذي عمل على إحياء روح الشعر العربي، التي عهدت في عصوره السالفة، وأعاد له قيمته التي تدنت إلى ما لا يليق بالشعر، الذي عرف امرأ القيس، وحسانًا، وجريرًا، وابن برد، وأبا نواس، والمتنبي، وغيرهم. فالبارودي أعاد روح هذه الشاعرية، من حيث: السمات، والأغراض، والإخراج. وهذا أمر متفق عليه، بين دارسي الأدب العربي.
ومن القضايا المهمة، في الطرح الشعري، قضية الإبداع. حيث كانت، ولا زالت، عنصراً مهماً في الحكم على شاعرية الشاعر، ومدى اتقانه. فالإبداع يفرق بين شاعر وآخر؛ لأن نظم الشعر، وإن عُدّ موهبةً عند البعض، إلا أنه بالإمكان أن يتعلم الإنسان نظم الشعر، ويدرب نفسه على ذلك، من خلال الاطلاع على جيد الشعر، وحفظه، وترداده، ومحاولة محاكاته، حتى يستقيم السمع الموسيقي للأذن، فيدرج النظم على اللسان، ويصبح قادراً على مجاراة الأشباه من القصائد. ويبقى الحكم مرةً أخرى على مدى إتقان الشعر، مرهوناً بما يقدمه الشاعر من إبداعٍ، يميز شخصيته، ويظهر مدى معرفته بخفايا النظم، وسر الشاعرية.
وفي حديثنا عن البارودي، يمكن أن نجمع له بين الأمرين: التقليد والإبداع، ولا يؤخذ عليه في أي جانب منهما، فالبارودي في إحيائه لطريق القدماء، في النظم، كان في مرحلة تتطلب ذلك التقليد؛ لأن السمات التي غلبت على الشعر، في وقته، كانت غايةً في الانحطاط، مقارنةً مع التاريخ المشرق والمضيء، للشعر العربي، على يد المتنبي، وغيره. فكان ينبغي أن تعاد الطريقة السامية، والمشرقة للشعر، إلى حيز الوجود، لتحتل مكانتها، وترتقي بالأذواق إلى ذلك المستوى الرفيع، لا أن ينهج منهجا بجانب ذلك المنهج القديم، وهو لا يملك الأدوات السامية التي تمكنه من مجاراته، وستكون النتيحة، حتماً، هي ذلك الفرق الشاسع بين الذوق والنظم القديم، والذوق والنظم المتأخر، وما فيه من ركاكة، وضعف، تستهجنه السليقة، والفطرة السليمة.
أما عن التقليد، فإن الإتيان به، لا يعني أن شخصية المقلد مختفية، في الغالب. فإن مجرد اتقان التقليد يعتبر إبداعاً من الشاعر وقدرة منه على تذوق الشعر، ومعرفة كنهه، حتى إذا ما اشتد عوده فيه، برزت شخصيته، واستقل بها.
كما أن للتقليد مستويات. فهناك تقليد الأسلوب، من حيث: الصور، والأخيلة، والألفاظ. وهناك تقليد المضمون، من حيث تكرار معاني المدح والهجاء والغزل، ونحو ذلك.
ويبقى فوق هذا كله، قضية التجربة الخاصة بالشاعر. فإنه من الظلم والإسفاف، أن نحكم على شاعرٍ أتى بنهج القدماء، شكلاً ومضموناً، بأنه متجرد من التجربة الخاصة. فالشاعر له شخصيته، التي عاشت صنوفاً من التجارب، ولا شك أن يكون لها أثرها في ما يصدر عنه، من نظم، أو نثر، أو سلوك. بالإضافة، إلى أن المخرجات الأدبية للشاعر، لن تكون مسبوكة، ومتقنة، بمجرد التقليد الجاف، وإنما لابد هناك من تدخل للشخصية، الواعية، والمدركة لكنه ما تقوم به، من انتاج. ويمكن أن أستشهد على الإبداع في التقليد، بقضية المعارضات.
فحين يعارض الشاعر قصيدة شاعرٍ آخر، فإنه سيلنزم بالوزن والقافية، التي أتى بها ذلك الشاعر. وإن كان يجب عليه أن يتطرق بشكل أو بآخر، إلى مضمون تلك القصيدة، فإن له الحرية في اختيار التعبير، والأسلوب، اللذين يراهما مناسبين، في معارضة القصيدة، بالإضافة، إلى ما يريد إضافته هو من معانٍ تكون ناقضةً أو مؤيدةً، أو حتى مساوية، لما في تلك القصيدة.
ومن هنا، يمكن مقارنة ما جاء به البارودي، على نحو المعارضات، ولا يعني هذا مطلقاً، أن تكون جميع قصائد البارودي، هي معارضات لشعراءٍ قدامى. فالبارودي كان يقصد ذلك التقليد، كما أسلفت، ليرتقي بأذواق الشعراء، في عصره، ثم يتقدم بالشعر، من تلك النقطة الرفيعة للشعر القديم، لا أن ينحدر، دونها. ولكن التمثيل بالمعارضات أستخدمه كي يقرب الفكرة التي قدمها البارودي في تقليده، وإبداعه. وقد ظهر في كثير من قصائده ما يتأكد تفسيره على أنه تميز وإبداع.
وثمة نقطة مهمة، هي أن التقليد، وإن كان يظهر لأول وهلة، بأنه مجرد، ولا يوجد فيه تجربة خاصة، إلا أن التعمق في فهم ما يُطرح سيكشف أن هذا التقليد، قد استخدم رموز القديم، ولكنه ألبسها دلالات خاصة، نابعة من تجربة شاعرنا، فجمعت بين قوتها التاريخية، وقوتها الخاصة به. وهذا يقودنا إلى حقيقة، أن الشعر، لا يوجد فيه إطلاق، فكل تجربة لها أحكامها الخاصة، وكل قصيدة لها ظروفها الخاصة، التي أخرجتها.
وأخلصُ في النهاية، إلى اعتبار البارودي، مقلداً لهدف الارتقاء بالأذواق، مع تميزه، وخروجه بالصيغ القديمة، من خلال تجاربه الخاصة، وإلباسها ثياب تجربته، باعتبارها رموزاً، لا أكثر.
والحمد لله ربّ العالمين