التخطي إلى المحتوى الرئيسي

مقدّمة الجاحظ في كتاب الحيوان- عرض وتقديم

بسم الله الرّحمن الرّحيم 
بقلم الدكتور عبدالكريم عبدالقادر اعقيلان 

عمرو بن بحر الجاحظ، ومن لا يعرف أبا عثمان؟ هل يعيبه أنه نشأ يبيع الخبز، والسمك بنهر سيحان؟ أم لأنه أعجمي الأصل وينافح عن العربية؟ مالذي عابوه على هذا الرجل، حتى يقفوا أمامه يتعرضون لما يكتب، ويؤلف، وينشر؟ 
لن أدافع عنه… 
بل في سيرة حياة هذا الرجل ما يقطع قول كل حكيم. وماذا أقول فيمن أخذ عن علماء اللغة، أصولها، فبرع فيها، حتى إنك لا تكاد تجد مؤلفاً في اللغة، إلا وفيه رأيٌ للجاحظ، أو شاهد؟. وهو الذي لم يكن يقع في يديه كتابٌ، إلا ويقرأه من أوله إلى آخره. بل لقد كان يكتري دكاكين الوراقين، يبيت فيها للقراءة، والنظر. وما هذه الكتب التي يقرأها؟ فيها من كل ما ترجم عن ثقافات الفرس، والهند، واليونان. ولم تكن ثقافة العرب ودينها، عنه ببعيدان. 
لن أدافع عنه… 
فلهذا الرجل لسانه، الذي نافح به عن العربية، في وجه الشعوبية، دفاعاً، لن تجد من أهل العربية، أنفسهم، من يدافع مثله. وهو الذي قال:" كلام العرب بديهة وارتجال، وكأنه إلهام". 
لن أدافع عنه… 
وهل هو بحاجةٍ إلى من يدافع عنه؟ وقد كان معتزلي الفكر؟ وبم اشتهر المعتزلة؟ أليسوا هم أهل الكلام؟ وهو يقول بلسان حاله:" إن كبار المتكلمين ورؤساء النظارين كانوا فوق أكثر الخطباء، وأبلغ من كثير من البلغاء". 
لن أدافع عنه… 
فها هو يحكي بلسان حاله، ماذا أخذه عليه ناقدوه، ويسير نحو من يعارضه بما يزيل الغموض، ويسبر الحقيقة، ويسوق الشواهد، ويديل الكلام، باللين، لعل نفوس القوم تلين، فينصاعوا للحق، ويرجعوا عن مخالفته، ونقده، أو لعلهم ينقلبون إلى حيزه، فيتكلمون بلسانه، مدافعين. وهو مع ذلك، لا يتوانى في الحكم بإساءة من انتقده، وعدم الاكتراث بهم، لأنهم ليسوا أهلاً للتقدير، بسبب سوء تصرفهم معه في نقدهم لمؤلفاته بغير ما وجه حق. 
وبعد…انظر…
 - ما موضوع المقدمة العام وما علاقته بموضوع كتاب الحيوان؟ 
- كيف بدأ أبو عثمان مقدمته؟ وكيف عرض حديثه؟ وكيف ختم؟ 
- وما هو الأسلوب الذي استخدمه في عرضه ذلك، واللغة؟ 

هذا ما سنعرض له فيما يأتي: 

كانت الفكرة العامة، التي دارت حولها المقدمة، هي بيان مآخذ مخالفي الجاحظ عليه في كتبه ومؤلفاته، ومن بينها كتابه-الحيوان- والرد عليها. وقد أشار في ثناياها إلى أهمية كتابه هذا، لكل فئات المجتمع، البشري، عربيه، وأعجميه. وترتبط هذه المقدمة بموضوع كتابه، من خلال أمرين:
- الأمر الأول: دورها في قطع الطريق على أي محاولة، من قبل مخالفيه للنيل من كتابه هذا، مسبقاً. فهو حين أثبت لهم بطلان دعواهم في كل ما أخذوه عليه، في كتبه السابقة، فإنه سيضعف من موقفهم، ويحبط أي محاولة مستقبلية، للنيل من كتابه، من جهة، وتعبئة الرأي العام، برفض ما يثيره حساده ومخالفوه ضد مؤلفاته، ليزرع الثقة فيها، من جهةٍ ثانية. وإن كان قد أشار إلى تعرض مخالفيه لكتابه الحيوان، فإنه قد رد عليهم، ودحض شبهاتهم، في هذه المقدمة، ولعل هذا يشير إلى احتمالية إضافة المقدمة لهذا الكتاب بعد أن نشره مؤلفه، فاضطر إلى هذا التقديم، أو ربما هي محاولات تنقيح أضاف فيها ما تعرض له كتابه من نقد، فاختار هذا التقديم، بهذه الصورة. وإن كنت أرجح الاحتمال الأول، لما أعرفه عن التأليف في القديم، من عدم اعتماده، شكل التأليف، التقليدي، والمكون من مقدمة، وعرض، وخاتمه. 
- الأمر الثاني: ارتباط المقدمة بمحتوى الكتاب هو أمرٌ حتمي، من خلال كونها تمهد له، وتبين الموضوعات التي يحتويه. وهذا ما تضمنته المقدمة. 
وبالنظر في مقدمة الجاحظ، يمكن تقسيمها، إلى الأقسام التالية: 
- البداية. 
- العرض. 
- الخاتمة. 
وقد بدأ الجاحظ مقدمته، بالدعاء، لشخص المخالف. فقد رأى أنه قد حاد عن الصواب في انتقاده، واعتبره، ممن ضل عن الطريق، فهو يسأل الله له الهداية. وهو في دعائه ذلك، يخاطب مخالفه، ويجعله خطاباً للمفرد. ويتابع خطابه، بتقرير أنه كان من الأولى أن يدعو له بدعاءٍ غير هذا الدعاء، وأن السبب في ذلك، هو بفعل مخالفه، نفسه، فهو الذي تعرض للجاحظ، بنقدٍ، يعتبره الجاحظ، ظالماً، مغلوطاً. وخطابه يأتي بصيغة المفرد، ولهذا إشارته، في كونه يجسد الفئات المخالفة له، في شخصٍ واحدٍ. فهم واحدٌ في مخالفتهم له، وموقفهم منه، فلا ضير في مخاطبتهم بلسانٍ واحد، فالقول في معنىً ما، يهم كل من يعنيه هذا القول. وهذا فيه نوع من تركيز القوة لدى الجاحظ، وعدم الاكتراث بكثرة من يخالفه، وهذا يمده بالقوة، ويقلل من شأن المغرضين، فتهدأ نفس الجاحظ، وتطمئن، وكأنه يتمثل قول الله تعالى:" إذ يريكهم الله في منامك قليلاً، ولو أراكهم كثيراً لفشلتم، ولتنازعتم، في الأمر، ولكن الله سلّم".[الأنفال]. 
وفي عرضه، قدم الجاحظ جملةً من المؤلفات الخاصة به، وعابه فيها مخالفوه. وهو في ذلك كان يأتي بالمؤلف، ويأتي بالنقاط التي أخذها عليه الآخذون، بطريقة توحي بأنه أحصى كل المآخذ على كتبه، ويسردها بأسلوب فيه نوع من السخرية وكأنه لا يأبه بنقدهم. كما أنه حين يرى نقدهم له في ناحية، وثمة نقطةٍ فاتتهم، فإنه يذكرهم بها، من باب السخرية، ويظهر لهم أنه لا قبل لهم بذلك . 
ومثاله قوله: 
" وعبتني بكتاب العباسية، فهلا عبتني بحكاية مقالةِ مَنْ أَبَى وجوب الإمامة، ومن يرى الامتناع من طاعة الأئمة، الذين زعموا أن ترك الناس سدىً بلا قيّم أردُّ عليهم…". 
و من جملة المؤلفات التي ذكرها هي: 
- كتاب الصرحاء والهجناء.[الصريح: عربي الأب والأم. الهجين: من كانت أمه من الإماء.]. 
- كتاب الزرع. 
- كتاب فضل ما بين الرجال والنساء، وفر ما بين الذكور والإناث. 
- كتاب العدنانية والقحطانية. 
- كتاب العرب والموالي. 
- كتاب الأصنام. 
- كتاب المعادن. 
- كتاب فرق ما بين هاشم وعبدشمس. 
- كتاب فرق ما بين الجن والإنس 
- كتاب الأوفاق و الرياضيات. 
- رسائل الهاشميات. 
- كتاب خلق القرآن. 
- كتاب الرد على المشبهة. 
- كتاب الرد على الجهمية. 
- كتاب الاحتجاج لنظم القرآن. 
- كتاب الوعد والوعيد. 
- كتاب النصراني واليهودي. 
- كتاب العباسية. 
- مجموعة كتب في المعرفة. 
وبعد ذلك، يذهب الجاحظ إلى تقرير عجز المخالفين عن النيل منه، ويُرجع كل ما قدموه من مآخذ، إلى أسبابٍ تتعلق بحسدهم، وجهلهم، وغرورهم. يقول:" ولكنه بهرك ما سمعت، وملأ صدرك الذي قرأت، [وأضجرك] وأبطرك، فلم تتجه للحجة، وهي لك معْرِضة. ولم تعرف المَقَابل وهي لك بادية، ولم تعرف المخرج إذ جهلت المدخل…". 
ويظهر أن رده هذا قد انتظر فترة من الزمن حتى قدمه، وهو يعلل هذا التأخير بأنه ليس الخوف من المواجهة، كما قد يظن البعض. يقول لخصومه:" وما أشك أنك قد جعلت طول إعراضنا عنك مطيةً لك، ووجهت حلمنا عنك إلى الخوف منك…". وهو في أثناء دفاعه يستشهد بأبياتٍ من الشعر، تحاكي المعنى الذي يقوله. 
من ذلك ما أتبعه لتعليله سبب التأخير في الرد عليهم حيث يقول:" وقد قال زُفر بن الحارث لبعض من لم ير حق الصفح فجعل العفو سبباً إلى سوء القول:
فإن عدت والله الذي فوق عرشه 
منحتك مصقول الغرارين أزرقاً 
فإن دواء الجهل أن تُضرب الطلى 
وأن يغمس العرِّيض حتى يُغرَّقا 
ثم يسير نحو ختم تقديمه هذا بعد أن قرر خسران خصومه، وانحرافهم عن جادة الصواب، فيختم بشيء من التقريع لهم، والتهديد، وعدم الاكتراث بهم. ويقرر أنهم لا يستحقون العفو، وفي ذلك إشارة منه إلى أنه حكم بانتصاره عليهم، فهو يتكلم من منطلق القوة، والمنعة. يقول:" وقد يقال: إن العفو يُفسد من اللئيم، بقدر ما يصلح من الكريم، وقد قال الشاعر: 
والعفو عند لبيب القوم موعظـةٌ 
وبعضه لسفيه القوم تدريــب". 
ويتابع فيقول:" فإذا كنا أسأنا في هذا التقريع والتوقيف، فالذي لم يأخذ فينا بحكم القرآن، ولا بأدب الرسول صلى الله عليه وسلم، ولم يفزع إلى ما في الفطن الصحيحة، وإلى ما توجبه المقاييس المطردة، والأمثال المضروبة، والأشعار السائرة، أولى بالإساءة، وأحق باللائمة". 
ويلاحظ على أسلوب الجاحظ، ولغته، في هذه المقدمة، عدة أمور: 
- البدء بالبسملة. وتسمية المقدمة بخطبة الكتاب. 
- عرض مقدمته بأسلوب الخطاب، من البداية، وحتى النهاية. وكان في أثناء عرضه، يبدو وكأنه يحاور المخاطب، عندما يدخل أسلوب الاستفهام، على نحو: "وعبتني في كتاب العباسية، فهلا عبتني بحكاية مقالة من أبى وجوب الإمامة؟". 
- استخدام السجع. وهو كثير في مقدمته.(التلوين الصوتي). 
- الاستشهاد بالشعر، على سبيل تقوية الحجة. 
- الاستشهاد بقول العرب من الأمثال ونحوها. مثل:" هل يضر السحاب نبح الكلاب؟". 
- وجود حسن التقسيم. كقوله:" ثم قصدت إلى كتابي هذا…وهو كتاب يحتاج إليه المتوسط العامي، كما يحتاج إليه الخاص. ويحتاج إليه الريض، كما يحتاج إليه الحاذق. أما الريض فللتعلم والدربة…وأما الحاذق فلكفاية المؤونة…". 
- الواقعية. فهو قد عرض ما حدث على أرض الواقع ممن مآخذ خصومه، ولم يخجل من تقريعهم. 
- التلوين العقلي. من خلال استخدام الفلسفة والمنطق، والحوار والجدل، وصياغة ذلك كله في صور فنية مناسبة. 
- وتعكس ألفاظه تمكنه من اللغة، وتبحره في مفرداتها. 
وبعد… 
فهل كنت محقاً إذ لم أدافع عن الجاحظ؟ فلو فعلت، فلن أبلغ مبلغه في الحوار، والجدال… 
ولكن! هل من علاقة بين بيع الخبز والسمك، وبين نبوغه في هذا المضمار؟ 
الحمد لله رب العالمين 



تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

القبائل الّتي يُحتجّ بلغتها في أصول العربيّة

بقلم: الدكتور عبدالكريم اعقيلان عناصر الموضوع: - سبب تحديد القبائل الّتي يُحتجّ بلغاتها. - تحديد القبائل الّتي يُحتجّ بلغاتها. - تداخل عنصريّ الزّمان والمكان في الاحتجاج اللّغويّ. - تحديد القبائل الّتي لم يُحتجّ بلغاتها. المراجع: - الفارابي : الألفاظ والحروف - السيوطي : الاقتراح - السيوطيّ: المزهر - ابن جنّي: الخصائص - محمّد عبده فلفل: اللّغة الشّعريّة عند النّحاة - مصطفى الرّافعيّ: تاريخ آداب العرب ***** أولاً: سبب تحديد القبائل الّتي يُحتجّ بلغاتها: تدخل قضيّة القبائل الّتي يُحتجّ بلغاتها في أصول اللّغة من كونها المستند الّذي يعتمده اللّغويّون في تقعيد اللّغة، أو وضع القاعدة اللّغويّة، والكلام المُتداول هو المسرح الّذي استمدّ منه اللّغويّون شواهدهم اللّغويّة، وهو مساحةٌ كبيرة من شرائح المجتمع، الّذي تدور اللّغة في فلكه، وتنشأ في أحضانه. وقد كان السّبب الرّئيس لتحديد هذه القبائل مرتبطاً ارتباطاً وثيقاً بخدمة القرآن الكريم، وهو الكتاب المبين الّذي نزل بلسان العرب ولغتهم، وقد ترتّب على هذا الأمر أن يحرص اللّغويّون على اختيار المستوى ال...

نبذة مختصرة في علم البيان

بقلم  الدّكتور/ ضياء الدّين الحموز جاء الدرس البلاغيّ عند القدماء مدفوعاً برغبة معرفة دقائق اللغة العربيّة، وأسرارها، والكشف عن وجوه الإعجاز في نظم القرآن الكريم وصولاً إلى قوانين تمكنهم من الوقوف على مقاصد الشارع الحكيم، وتمكنهم من محاكاة أسلوب النظم القرآني المعجز، وقد انقسم الدرس البلاغيّ عندهم إلى ثلاثة أقسامٍ أساسيّة، هي: البيان، والمعاني، والبديع، وحديثنا في هذه الورقات مختصّ بالبيان.  يبحث علم البيان في وسائل التصوير الفنّي، وأهمّها : التشبيه، والكناية والاستعارة، ويقيم هذا العلم حتى وقت متأخّرٍ من الدراسات البلاغيّة القديمة فواصل بين هذه الأنواع الثّلاثة، وقد باتت هذه الأصول الثّلاثة- إن صحّ التعبير- تدخل في إطار ما يعرف الآن بـ (الصّورة الشّعريّة) أو (اللّوحة الفنّيّة).  ويمكن الوصول إلى البيان العربيّ من خلال مؤلفات الأقدمين الذين أثروا المكتبة العربيّة بذخائر الأدب والثقافة والعلوم اللّغويّة، ومن أشهر المؤلفات البلاغية التي عنيت بالبيان العربي قديماً: - البيان والتبيين : الجاحظ 255هـ. - البديع: عبدالله بن المعتزّ 296هـ.  - نقد الشّعر: قدامة بن جعفر 337هـ...