بسم الله الرحمن الرحيم
ثنائية الأصالة والمعاصرة
بقلم: الأستاذ الدكتور
محمود مبارك عبيدات
أستاذ اللغة والنحو
جامعة العلوم الإسلامية العالمية عمان- الأردنّ
أخذت الدراسات الوصفية للغة تسيطر على ميدان الدراسات اللغوية منذ مطلع القرن الفائت، وذلك حين ظهر كتاب "دي سوسير" (محاضرات في الألسنية العامّة) عام 1916م، ومن ثمّ أخذت قيمة الدراسات اللغوية تتحدد بمدى انسجامها مع هذا المنهج الجديد.
وقد انشعبت هذه الدراسة الوصفية للغة، إلى منهجين، هما: المنهج الوصفي التقريري، والمنهج الوصفي التفسيري، واتجه الأول نحو الوصف المحض، دون إقحام التفسيرات في الوصف اللغويّ، إذ يكتفي بوصف الظاهرة من الخارج وصفاً شكليّاً، ولا يعترف بما لا يظهر على السطح الظاهر، الذي يمكن إخضاعه للملاحظة العلميّة والتجريب.
أما المنهج الثاني، وهو المنهج الوصفي التفسيري، فيرى أن الظاهرة اللغوية لا يمكن فهمها بالاقتصار على الخارج، إذ لا بد من النفاذ إلى البنى العميقة، وهذه البنى العميقة لا تكون ظاهرةً على السطح، وإن كانت هي المسؤولة عن توليد هذا السطح، فهي حقيقة سيكولوجية ذهنية، وكونها كذلك، لايعني أنها غير موجودة؛ لأنه لا يمكن تفسير تجسداتها الفعليّة الظاهريّة دون افتراض وجودها ومحاولة إثباتها، ومن هنا، لا يصحّ الاقتصار على الوصف التقريري الخارجي، بل لابدّ أن يكون للقوانين الموضوعة للغة قوة تفسيرية.
وقد تبنت المدرسة التوليدية التحويلية المنهج الثاني، وهو المنهج الوصفيّ التفسيري، ورأت أنه إذا خٌيِّرْنا بين قانونين: أحدهما يكتفي بالوصف، والآخر يصف ويفسّر، فإن الثاني هو الأحسن من الناحية العملية.
وتأتي هذه الدراسة التي قام بها الباحث عبدالكريم عبدالقادر اعقيلان، وفق هذا المنهج الوصفي التفسيري، إذ عمد الباحث إلى دراسة ظاهرةٍ من الظواهر المشكلة في البحث الصرفيّ، وهي ظاهرة الاشتراك الصرفي بين أبنية المصادر والمشتقات، وعلى الرغم من صعوبة الخوض في مثل هذا الموضوع، إلا أن الباحث نجح في الوقوف عند وصف هذه الظاهرة في النصوص اللغوية العربية الفصيحة، التي يمثلها القرآن الكريم خير تمثيل، ثم نجح أيضاً في تقديم تفسيرٍ لهذه الظاهرة، وطرق التمييز بين المعاني الصرفيّة المختلفة، التي تنفتح عليها كل بنية، معتمداً في ذلك على معطيات الدرس اللغوي الحديث، بكل معطياته، التي تتيح لباحثٍ جادّ أن يفيد من كل ما يمكنه الإفادة منه، في سبيل تقديم تفسيرٍ نظريّ وعمليّ للظاهرة المدروسة.
ولذلك؛ فقد زاوجت هذه الدراسة بين التنظير والتطبيق في تفسير ظاهرة الاشتراك الصرفيّ، فكان الفصل الأول منها نظرياً، هدفه تقديم تعريفٍ صرفيّ واضح لظاهرة الاشتراك الصرفيّ وكل ما يتعلّق به من مصطلحاتٍ، ابتداءً من البنية إلى البنية المشتركة، وانتهاءً بالمصادر والمشتقات، التي هي محور الدراسة.
وكان الفصل الثاني منها تطبيقياً، وذلك عن طريق الوقوف عند الأبنية الصرفيّة التي وقع فيها الاشتراك بين المصادر والمشتقات، وتقديم الأمثلة اللغوية الشاهدة على كل معنى صرفيّ، ومن ثم تحليلها، وبيان طرق التمييز بين المعاني الصرفية المختلفة التي تحملها كل بنيّة.
وأما الفصل الأخير، فقد زاوج بين التنظير والتطبيق، في محاولةٍ للوقوف عند أهمّ المسائل اللغويّة، التي تتعلّق بموضوع الدراسة، كالقياس والسماع، والتطور اللغويّ التاريخيّ، وعلاقة هذه الموضوعات بالأبنية الصرفية المشتركة وأثرها فيها.
وتجدر الإشارة إلى أنه إذا وقع الخلاف بين علماء اللغة المتقدمين في وقوع الاشتراك اللفظي في اللغة العربية، فإنّ أحداً لا يمكنه أن ينكر وجود ظاهرة الاشتراك الصرفيّ، الذي تتناوله هذه الدراسة، وذلك لأننا لسنا أمام كلمةٍ لها أكثر من معنى- وهو مدلول الاشتراك اللفظي- وإنما نحن في ظاهرة الاشتراك الصرفيّ أمام بنية صرفيّة يندرج تحتها كمٌّ هائلٌ من الكلمات، التي تؤدي معاني صرفية مختلفة؛ وعليه، تصبح البنية الصرفيّة حقلاً يشبه ما نجده في الحقول الدلاليّة، التي لا يمكن لأحدٍ أن ينكر وجودها في كل لغات البشر.
وأخيراً، فإنني على يقينٍ بأنّ هذه الدراسة قد حققت الهدف المنشود منها، وأنها ستكون إضافةً نوعيةً ، تُضافُ إلى مكتبة الصرف العربيّ، تجمع بين الأصالة والمعاصرة، وأسأل الله- تعالى- أن ينفع بها، وأن ينفع بصاحبها، وأن يسدد على طريق العلم والخير خطاه.