التخطي إلى المحتوى الرئيسي

بعيدًا عن سوفسطائيّة المعترضين أو بيزنطيّة المجادلين- تقديم لكتاب "تعليل الأحكام الصّرفيّة"

بقلم: الأستاذ الدّكتور محمود مبارك عبيدات 
أستاذ اللّغة والنّحو 
جامعة العلوم الإسلاميّة العالمية 
عمّان/المملكة الأردنيّة الهاشميّة

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيّد الخلق أجمعين، وبعد:
فإنّ من المعروف أنّ العلّة بنت البحث والنّظر، وبنت الاستنباط العقليّ، فهي مبدأ أفضى إليه في اللّغة القياس، ولأنّ العرب جُبلوا بطبائعهم على حبّ التّعليل، والبحث عن الأسباب، وجدنا كتبَهم تمتلئ بالعلل وذكر مسوّغات الظّواهر اللّغويّة المختلفة.
وقد كان اهتمام الدّراسين في موضوع العلل منصبًّا في غالبه بدراسة العلل النّحويّة، لذا؛ جاءت هذه الدّراسة التي قام بها الباحث المتميّز (ضياء الدّين محمّد إسماعيل الحموز) لإحداث توازن في موضوع الدّراسات الباحثة في موضوع العلل، وذلك بدراسته العللَ الصّرفيّة في أحد الكتب التي تُعدُّ من أعمدة الدّراسات الصّرفيّة العربيّة، ألا وهو (شرح شافية ابن الحاجب) لـِ(رضيّ الدّين الأستراباذي)، الذي وجدَ فيه الباحثُ ما يستثير حفيظته؛ فتنامى الاهتمام به، حتى غدا موضوعًا في هذه الدّراسة. 
لقد خطّت هذه الدّراسة بشكلٍ أوّليّ معياريّةً تربطُ الأحكام الصّرفيّة وواحدٍ من أصول تلك الأحكام، وهو (التّعليل)، الذي ارتبطَ برباطٍ متينٍ بها، وبسبيل تحقيق إجابةٍ كافيةٍ في هذا المقام، فقد عوّلت الدّراسة أن تكون قاعدة بياناتها الأساسيّة تعليلات (الأستراباذي)، ثمّ تعليلات اللّغويّين المتقدّمين للمسائل نفسها في الدّرجة الثّانية. بعدها يقعُ الانتفاع بفكر المحدثين لتفسير تلك المسائل؛ وذلك بهدف ربط القديم بالحديث، لتحقّق الفائدة بشكلٍ أكثرَ جلاءً وبروزًا.
وقد استطاع (ضياء الدّين الحموز) في هذه الدّراسة أن يبيّن أنّ العلّة ليست دائمًا مجرّد تسويغٍ لاستعمال مفردةٍ أو ظاهرةٍ محدّدة، ولاتفسيرًا متكلّفًا لما يبدو مستعصيًا على التّفسير، وإنّما تهدف إلى وضع جهازٍ تفسيريّ غايتُه الكشف عن نظام العربيّة من الوجهة الصّرفيّة، وبذلك تصدق المقولة النّاطقة بأنّ الذين هاجموا العلّة لم يكونوا على درجةٍ حصيفةٍ من العلم. 
ولقد كان من أهمّ ما تميّز به هذا الباحث الحصيف هو قدرته العالية على التّحليل والمناقشة والنّقد الموضوعيّ الذي لا يتعصّب لرأيٍ دون رأي، بل يقفُ موقف المحايد الذي يجعلُ جُلَّ وُكْدِه الوصول إلى الحقيقة وحبّ المعرفة، لذا؛ لم يخلُ موضعٌ من مواضع الدّراسة من رأيٍ للباحث إنْ بنقدٍ مؤدّبٍ، أو بتوجيهٍ لطيف، أو بتحليلٍ كاشف، أو باعتراضٍ هدفه كشف الحقائق وفهم الظّاهرة، بعيدًا عن سوفسطائيّة المعترضين أو بيزنطيّة المجادلين. 
ويمكن القول إنّ كتابه هذا يقدّم إجابةً شافية عن سؤلاتٍ كثيرة قد تثير حفيظة الباحثين حول العلل الصّرفيّة، كما أنّه خلاصةٌ مستصفاةٌ لمن يريد أن يبني على ما انتهى إليه الآخرون. أرجو الله أن يوفّق صاحب هذا الكتاب في مستقبل أيّامه، وأن يديم عليه نجاحاته في دراساته المستقبليّة، وأن ينفعَ بهذا العمل الدّراسين والباحثين، إنّ سميعٌ مجيب. 
والحمد لله ربّ العالمين


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

القبائل الّتي يُحتجّ بلغتها في أصول العربيّة

بقلم: الدكتور عبدالكريم اعقيلان عناصر الموضوع: - سبب تحديد القبائل الّتي يُحتجّ بلغاتها. - تحديد القبائل الّتي يُحتجّ بلغاتها. - تداخل عنصريّ الزّمان والمكان في الاحتجاج اللّغويّ. - تحديد القبائل الّتي لم يُحتجّ بلغاتها. المراجع: - الفارابي : الألفاظ والحروف - السيوطي : الاقتراح - السيوطيّ: المزهر - ابن جنّي: الخصائص - محمّد عبده فلفل: اللّغة الشّعريّة عند النّحاة - مصطفى الرّافعيّ: تاريخ آداب العرب ***** أولاً: سبب تحديد القبائل الّتي يُحتجّ بلغاتها: تدخل قضيّة القبائل الّتي يُحتجّ بلغاتها في أصول اللّغة من كونها المستند الّذي يعتمده اللّغويّون في تقعيد اللّغة، أو وضع القاعدة اللّغويّة، والكلام المُتداول هو المسرح الّذي استمدّ منه اللّغويّون شواهدهم اللّغويّة، وهو مساحةٌ كبيرة من شرائح المجتمع، الّذي تدور اللّغة في فلكه، وتنشأ في أحضانه. وقد كان السّبب الرّئيس لتحديد هذه القبائل مرتبطاً ارتباطاً وثيقاً بخدمة القرآن الكريم، وهو الكتاب المبين الّذي نزل بلسان العرب ولغتهم، وقد ترتّب على هذا الأمر أن يحرص اللّغويّون على اختيار المستوى ال...

نبذة مختصرة في علم البيان

بقلم  الدّكتور/ ضياء الدّين الحموز جاء الدرس البلاغيّ عند القدماء مدفوعاً برغبة معرفة دقائق اللغة العربيّة، وأسرارها، والكشف عن وجوه الإعجاز في نظم القرآن الكريم وصولاً إلى قوانين تمكنهم من الوقوف على مقاصد الشارع الحكيم، وتمكنهم من محاكاة أسلوب النظم القرآني المعجز، وقد انقسم الدرس البلاغيّ عندهم إلى ثلاثة أقسامٍ أساسيّة، هي: البيان، والمعاني، والبديع، وحديثنا في هذه الورقات مختصّ بالبيان.  يبحث علم البيان في وسائل التصوير الفنّي، وأهمّها : التشبيه، والكناية والاستعارة، ويقيم هذا العلم حتى وقت متأخّرٍ من الدراسات البلاغيّة القديمة فواصل بين هذه الأنواع الثّلاثة، وقد باتت هذه الأصول الثّلاثة- إن صحّ التعبير- تدخل في إطار ما يعرف الآن بـ (الصّورة الشّعريّة) أو (اللّوحة الفنّيّة).  ويمكن الوصول إلى البيان العربيّ من خلال مؤلفات الأقدمين الذين أثروا المكتبة العربيّة بذخائر الأدب والثقافة والعلوم اللّغويّة، ومن أشهر المؤلفات البلاغية التي عنيت بالبيان العربي قديماً: - البيان والتبيين : الجاحظ 255هـ. - البديع: عبدالله بن المعتزّ 296هـ.  - نقد الشّعر: قدامة بن جعفر 337هـ...

مقدّمة الجاحظ في كتاب الحيوان- عرض وتقديم

بسم الله الرّحمن الرّحيم  بقلم الدكتور عبدالكريم عبدالقادر اعقيلان   عمرو بن بحر الجاحظ، ومن لا يعرف أبا عثمان؟ هل يعيبه أنه نشأ يبيع الخبز، والسمك بنهر سيحان؟ أم لأنه أعجمي الأصل وينافح عن العربية؟ مالذي عابوه على هذا الرجل، حتى يقفوا أمامه يتعرضون لما يكتب، ويؤلف، وينشر؟  لن أدافع عنه…  بل في سيرة حياة هذا الرجل ما يقطع قول كل حكيم. وماذا أقول فيمن أخذ عن علماء اللغة، أصولها، فبرع فيها، حتى إنك لا تكاد تجد مؤلفاً في اللغة، إلا وفيه رأيٌ للجاحظ، أو شاهد؟. وهو الذي لم يكن يقع في يديه كتابٌ، إلا ويقرأه من أوله إلى آخره. بل لقد كان يكتري دكاكين الوراقين، يبيت فيها للقراءة، والنظر. وما هذه الكتب التي يقرأها؟ فيها من كل ما ترجم عن ثقافات الفرس، والهند، واليونان. ولم تكن ثقافة العرب ودينها، عنه ببعيدان.  لن أدافع عنه…  فلهذا الرجل لسانه، الذي نافح به عن العربية، في وجه الشعوبية، دفاعاً، لن تجد من أهل العربية، أنفسهم، من يدافع مثله. وهو الذي قال:" كلام العرب بديهة وارتجال، وكأنه إلهام".  لن أدافع عنه…  وهل هو بحاجةٍ إلى من يدافع عنه؟ وقد كان معتزلي الف...