بقلم/ د. عبدالكريم اعقيلان
إنّ المال هو عصب العلاقات التّجاريّة، باعتباره الأداة التي تقوم عليها التبادلات التّجاريّة، وهو في حقيقته متعدد الأصناف، فهناك الدّولار واليورو والدرهم والدينار وكذلك الرّيال، واليوان، وهذه كلها عملات تجاريّة لها أسواقها التّجاريّة التي تستخدم فيها لإجراء التبادلات التّجاريّة، وقد دخلت الأسواق الآن في مرحلة أخرى من مراحل التّبادل التّجاري بالعملات من خلال العملات الرّقميّة المشفّرة، وهي متفاوتة من حيث القيمة والأهمية في المعاملات الاقتصادية، وأصبحت جزءًا مهمًّا تسعى كثيرٌ من الدّول إلى تبنّي الاستثمار فيها استعدادًا للتّغيّرات المحتملة في الاقتصاد المستقبليّ.
ومن جانب آخر، تأتي اللّغة لتحتلّ مكانة مهمّة في المعاملات التّجاريّة، وهذه الأهميّة تتعدّى فكرة التّواصل والتّعبير عن الأغراض الاقتصاديّة والتّرويج للمنتجات، إذ تتحوّل اللّغة إلى أداة استراتيجيّة تفتح الأسواق وتقرّب بين الثّقافات وتمنح العلامات التّجاريّة القدرة على الانتشار، فاختيار لغة الإعلان أو لغة العلامة التجاريّة قد يحدّد حجم انتشارها ومدى قبولها في الأسواق المختلفة، كما أنّ التّرجمة الدّقيقة والقدرة على التّكيّف مع الخصوصيّات الثّقافيّة تجعل من اللّغة جسراً يقرّب المنتجات التّجاريّة إلى نفوس المستهلكين، وفي زمن العولمة، لم تعد اللّغة مجرّد وسيلة للتّفاهم، بل أصبحت عملةً رمزيّة تُقاس قيمتها بمدى قدرتها على خلق تواصل عابر للحدود وصناعة استقطاب تجاريّ.
الذي يدفعني إلى الحديث عن اللغة التجاريّة أمران: الأمر الأوّل هو النّظر إلى الواقع الذي نعيشه اليوم، حيث أصبحت التّجارة عابرة للحدود، والأسواق متداخلة، والمنتجات تصل من أقاصي الأرض، وهذا التداخل لا يمكن أن يقوم إلا على لغة مشتركة أو منظومة لغات قادرة على تسهيل عمليّات التّبادل التّجاريّ، وأمّا الأمر الثّاني فهو استشراف المستقبل، إذ إنّ الاقتصاد العالمي يتّجه بخطى متسارعة نحو مزيد من الانفتاح والاعتماد على التّكنولوجيا التي تُعدّ لغةً في ذاتها، وهذا يجعل اللّغة أكثر من أداة للتّواصل، بل مفتاحاً من مفاتيح القوّة الاقتصاديّة، ووسيلة للهيمنة الاقتصاديّة والثّقافيّة.
فاللغة الصينيّة – على سبيل المثال – بدأت تتغلغل إلى أعماق المجتمعات العربيّة من خلال إقرارها مادّة دراسيّة في بعض الجامعات والمدارس، إضافةً إلى انتشار معاهد تعليمها، وذلك استجابةً للتّقدّم الاقتصادي المتصاعد للصين وحضورها الفاعل في الأسواق العربيّة، فالتّعاملات التّجاريّة بين الصين والدّول العربيّة لم تعد تقتصر على السّلع الاستهلاكيّة البسيطة، بل امتدّت إلى مشاريع استراتيجيّة كالبنية التحتيّة والطّاقة والتكنولوجيا، وهذا ما يفرض على رجال الأعمال والاقتصاديّين امتلاك أدوات لغويّة تتيح لهم فهم العقل الاقتصادي الصيني والتّواصل المباشر معه بعيداً عن الوسائط المترجمة، ومن هنا تتجلّى قيمة اللّغة التّجاريّة، إذ تتحوّل من مجرّد وسيلة للتّفاهم إلى استثمار طويل الأمد يعزّز الشّراكات ويختصر المسافات الثّقافيّة والاقتصاديّة.
تاريخيًّا، تُشير بعض المصادر إلى ما يُسمّى بـ (اللّغة التّوخاريّة – Tocharian) أو (اللّغة التّجاريّة)، التي كان لها دور تجاري على (طريق الحرير)، حيث استخدمها بعض التّجّار والشّعوب القاطنة في حوض تاريم بآسيا الوسطى للتّواصل وتسيير عمليّات التّبادل بين الشرق والغرب (محمود السّعران، علم اللغة مقدمة للقارئ العربي، ص 204)، ورغم أنّها لغة منقرضة اليوم، إلّا أنّ وجودها يكشف عن الأبعاد التّاريخيّة العميقة لفكرة (اللّغة التّجاريّة)، وكيف أنّ التّجارة كثيرًا ما كانت المحرّك الأكبر لانتشار اللّغات أو اندثارها، فاللّغات التي استطاعت أن تواكب الحراك التّجاري وتفرض حضورها على طرق القوافل والأسواق ظلّت حيّة ردحًا من الزّمن، بينما تراجعت تلك التي انحصرت في جغرافيا ضيّقة أو فقدت سندها الاقتصادي، ومن هنا ندرك أنّ التّاريخ التّجاري ليس فقط تاريخ بضائع وأسعار، بل هو أيضًا تاريخ لغات وثقافات تمازجت وتشابكت لتبني الجسور بين الحضارات.
وكما مثّلت التّوخاريّة في زمنها جسرًا تجاريًّا وثقافيًّا على طريق الحرير، فإنّ عصرنا الحاضر يشهد بروز لغات أخرى تؤدّي الدّور نفسه في سياق العولمة، فالإنجليزيّة، تُعدّ اليوم اللّغة التّجاريّة العالميّة الأولى، إذ تُستخدم في العقود الدّوليّة، وفي مجال المال والأعمال، وفي الاتّصالات الدّوليّة، أمّا اللّغة الصينيّة، فقد بدأت تفرض حضورها كلغة عالميّة نتيجة النّمو الاقتصادي الكبير للصين، ومشروعاتها الضّخمة التي تربط الصين بالعديد من دول العالم عبر طرق بريّة وبحريّة وتجاريّة، وهذا النّفوذ الاقتصادي المتزايد جعل كثيرًا من الدّول والأفراد يسعون إلى تعلّم الصينيّة، باعتبارها مفتاحًا لفهم طريقة التّفكير الصيني في مجال التّجارة والتّعاون الاقتصادي.
وفي المقابل، تحتفظ العربيّة بمكانة فريدة، فهي لغة أكثر من 400 مليون إنسان، ولها امتداد جغرافيّ واسع يربط آسيا بإفريقيا، إضافة إلى ثقلها في مجالات الطّاقة والاستثمار، ولغة العرب قديمًا قد تم تأطيرها وفق لغة قريش، التي تحقق لها هذا الأمر من خلال الأسواق التّجاريّة العربيّة التي كانت تنتشر في ربوع الجزيرة العربيّة، مثل سوق عكاظ وذي المجاز وذي المجنّة وغيرها، فكانت هذه الأسواق ملتقى للتّجار والشّعراء والخطباء، فاختلط فيها البيع بالشّراء مع الأدب بالفصاحة، وفي هذا الفضاء الاقتصادي والثقافي، تكرّست لغة قريش كلغة جامعة بين القبائل، ليس لأنها لهجة قريبة من السّليقة وسهلة على الألسن، بل لأنّها ارتبطت بحركة التجارة الواسعة التي جعلت قريش وسيطًا بين المشرق والمغرب، وجعلت قريشًا تمارس دور التّنقيح اللّغويّ للغات العرب واختيار المستويات اللّغوية الأرقى "فقد كانت العربُ تحضر المَوسِم في كل عام وتحجُّ البيتَ في الجاهلية وقريشٌ يسمعون لغاتِ العرب فما اسْتحسنوه من لغاتهم تكلموا به فصاروا أفصحَ العرب وخلَتْ لغتُهم من مُستبْشع اللغات ومُستقبَح الألفاظ" (الفراء، المزهر في علوم اللّغة للسيوطي، 1/175)، فسادت تلك اللّغة على بقية اللغات في الجزيرة العربيّة، وهكذا نجد أنّ التّجارة لم تكن مجرّد نشاط اقتصادي، بل كانت محرّكًا لغويًّا وثقافيًّا ساهم في توحيد العرب لغويًّا، ومهّد لاحقًا لأن تصبح العربيّة وعاءً للوحي وكتابًا عالميًّا يتجاوز حدود الجزيرة.
ومن هنا يبرز السؤال الجوهري: هل تقود اللغة الاقتصاد، أم أنّ الاقتصاد هو الذي يفرض لغته؟ والحقيقة أنّ العلاقة جدليّة متبادلة، فاللغة تُتيح للأسواق التمدّد، وتفتح أبوابًا للنفوذ، بينما يمنح الاقتصادُ اللغةَ سندًا ومشروعية، فيجعلها حاضرة في التعليم والإعلام والثقافة، ولعلّنا نشهد اليوم صعود لغات تتحوّل إلى (عملات رمزية)، تقاس قيمتها بقدرتها على فتح أسواق، وصناعة استقطاب اقتصادي، وترسيخ هوية اقتصادية تتجاوز حدود الجغرافيا.
وعليه؛ فإنّ هذه اللغات الثلاث (الإنجليزية والصينية والعربية) تُجسّد اليوم الطبقة السّائدة من اللغات التجارية العالميّة، إذ تتقدّم لتعيد رسم خرائط النفوذ الاقتصادي والثقافي في زمنٍ تتسارع فيه المتغيّرات، وتتداخل فيه الأسواق، وتتقاطع عنده المصالح، فلم تَعُد اللغة محصورة في كونها أداة تخاطب، بل أضحت سياجًا حضاريًّا يُحيط بالاقتصاد ويقوده، ويُرسّخ حضور الدول عبر قدرتها على نشر لسانها، وبثّه في مناهج التعليم، وإشاعته في الإعلام والتكنولوجيا، حتى يصبح جزءًا من الوعي الجمعي للأمم.
فاللغة المؤثرة ليست تلك التي تجيد الوصف فحسب، بل التي تصوغ المعنى وتبني الجسور، وتجعل من التجارة فعلًا يتجاوز تبادل السلع إلى صناعة استقطاب اقتصادي وثقافي، ومن هنا، يصبح الاستثمار في تعليم اللغات سياسةً اقتصادية راسخة، لا تقل شأنًا عن بناء الموانئ والطرق، لأنّها تمنح الدول موطئ قدمٍ في خريطة النفوذ القادم، وكما شكّلت التوخارية قديمًا أداةً للتواصل والتجارة على طريق الحرير، تتقدّم اليوم الإنجليزية والصينية والعربية لتؤدي الدور نفسه في عالم العولمة، لا بوصفها وسائط بيع وشراء فحسب، بل باعتبارها حوامل للهويّة والمعرفة والقيم، تعيد تشكيل ملامح الاقتصاد العالمي بروح لغوية جديدة.