التخطي إلى المحتوى الرئيسي

الأمراض اللغويّة وأمراض الكلام


 

بقلم/ د. عبدالكريم اعقيلان

لقد كانت العناية باللغة عند العرب عناية لا تنفكّ عن النظر في سلامتها وحفظها من العلل والأمراض، ذلك أنّ اللغة في نظرهم ليست مجرّد أصوات تُتداول أو تراكيب تُؤدَّى، بل هي هويةٌ جامعة، ومخزنٌ للمعرفة، ووعاءٌ للفكر، ومن هنا نشأ الوعي بما يمكن أن يُسمّى – استعارةً – (أمراض اللغة) و(أمراض الكلام)، حيث شبّه اللغويون والباحثون اللغة بالكائن الحيّ الذي يعتريه الخلل كما يعتري الأجساد، وهذه النظرة، وإن بدت في ظاهرها مجازًا، إلا أنّها تنطوي على فلسفة عميقة تجعل اللغة قابلة للتوصيف والتشخيص والمعالجة.

وقد اخترت أن أتناول هذا الموضوع من خلال ثلاث دراسات:

الأولى دراسة عزّ الدّين حفّار عن (ابن البنّاء المرّاكشي) (471هـ) الذي صنّف الأمراض اللغوية وصاغ لها تشخيصًا مبكّرًا، والثانية دراسة كلتوم رحموني عن (عبد الرحمن الحاجّ صالح) (1931–2021) الذي أعاد قراءة تلك المفاهيم في ضوء اللسانيات النفسية الحديثة، والثالثة دراسة محمد النوبي (2017) الذي قدّم العلم التطبيقي المعروف اليوم بـ (علم أمراض النطق واللغة)، فجعل من هذه القضايا موضوعًا للتشخيص والعلاج في الممارسة السريرية، ولعلّ أهمية هذه الدراسات الثلاث تكمن في أنّها ترسم لنا خطًّا متّصلًا من الجذور التراثية، إلى إعادة التأصيل النظري، وصولًا إلى التطبيق العلمي الحديث، وما أريد أن أعرضه في هذا المقال هو تلخيص تلك الدّراسات الثّلاث وبيان أبرز ما قدمه الباحثون في هذا الموضوع، لبيان وتأكيد ضرورة الاهتمام باللّغة وبذل الجهود من أجل تصحيح أيّة مشكلات أو اختلالات قد تطرأ عليها في الجانب الاستعماليّ.

أوّلاً: ابن البنّاء المرّاكشيّ والأمراض اللغويّة

يظهر في دراسة عزّ الدّين حفّار أنّ ابن البنّاء المرّاكشيّ قد تعامل مع اللغة على أنّها كائنٌ اجتماعيّ له قوانينه الخاصّة، غير أنّه لا يَسلم – شأنه شأن الأجساد – من العلل والأدواء، فجاء تصنيفه للأمراض اللغويّة في أربعة أبواب، هي: اللحن في النحو، والتحريف في النطق، والفساد في الاشتقاق، والانحراف الدّلالي، وهذا التقسيم، في جوهره، ليس مجرّد ترتيبٍ اعتباطيّ، بل هو تصوير لطبيعة الخلل في مستوياته المختلفة: صوتًا، وبنيةً، ودلالةً، وتركيبًا.

وإذا ما تأمّلنا الأسباب التي ساقها (حفّار) عن (ابن البنّاء)، وجدناها تنصرف إلى عاملين رئيسين: الأوّل: خارجيّ يتمثّل في اختلاط العرب بالأعاجم وما أدّى إليه من تسلّل غير المألوف إلى أبنية الكلام؛ والثّاني: داخليّ يتمثّل في ضعف التعليم، وابتعاد الناشئة عن موارد الفصحى الأصيلة، وهنا تبرز فلسفة (ابن البنّاء)، كما صوّرها (حفّار)، في أنّ اللّغة لا تَفْسُد بِفَسَاد مفرداتها فحسب، بل تَفْسُد بِفَسَاد بيئتها الحاضنة، فإذا ضَعُف التعليم أو انفصلت الأجيال عن أصول العربية، انعكس ذلك على السلوك اللغويّ كلّه.

ولم يكتفِ (ابن البنّاء) – في تحليل (حفّار) – بوصف الخلل وتشخيص علله، بل ذهب إلى ما يشبه تقرير (العلاج)، وهو العودة إلى النصوص الأصيلة في القرآن الكريم والشعر العربيّ، وإحياء علوم النحو التي عدَّها بمنزلة (طبّ اللغة)، وتسمية النحو (طبًّا) ليست مجرد استعارةٍ عابرة، بل هي إشارةٌ إلى أنّ النحو – في تصوّره – هو المعيار الضابط الذي يُقاس به الاستعمال، ويُميَّز به الصَّحيح من السَّقيم، تمامًا كما يُميّز الطَّبيب بين المرض والصحّة.

ومن هذا المنطلق، يمكن القول إنّ ابن البنّاء قد أسّس – بوسائل عصره – ما يشبه التشخيص اللغويّ، الذي لا يتعامل مع الخطأ بوصفه انحرافًا فرديًّا، بل بوصفه ظاهرة اجتماعيّة تستدعي معالجةً شاملة، وهذا ما يجعل نظرته – كما يعرضها حفّار – تلتقي في جوهرها مع ما يُعرف اليوم بِـ (علم اللسان المرضيّ)؛ إذ إنّ كليهما ينظر إلى اللغة من حيث انتظامها أو اضطرابها، ويبحث عن الأسباب المؤدّية إلى ذلك، ثم يقترح سُبل العلاج.

ثانياً: عبد الرحمن الحاجّ صالح وأمراض الكلام

في دراسة الباحثة (كلتوم رحموني) لموقف عبد الرحمن الحاجّ صالح من قضيّة (أمراض الكلام) يظهر أنّه لم يقف عند حدود التّراث كما تلقّاه، بل أعاد قراءته قراءةً جديدةً في ضوء اللسانيّات النفسيّة الحديثة، جاعلاً من المصطلح العربيّ القديم مادّةً قادرةً على مواكبة التطوّر العلميّ، فقد وقفت (رحموني) عند مصطلح (الحصر) على نحوٍ خاصّ، مبيّنةً أنّه يقابل ما يُعرف اليوم بـ (الحبسة الكلاميّة)، وهي حالة مرضيّة تتمثّل في عجز المتكلّم عن إنتاج الكلام بصورة طبيعيّة، ولئن عبّر القدماء عن هذا العجز بمظاهر كالتلعثم أو الغمغمة أو العسلطة، فإنّ الحاجّ صالح – كما تشرح (رحموني) – لم يتردّد في ربط هذه التوصيفات التراثيّة بما توصّل إليه الطبّ الحديث في تشخيصه لاضطرابات النطق واللغة، وأضافت ما يُقابل المرض من المصطلحات وهو العلاج في إشارة إلى مصطلح (التّبليل) الذي يُقابل معنى (علاج أمراض الكلام) في رأي الحاجّ صالح.

وتُشير الباحثة إلى أنّ الحاجّ صالح قد اتَّخذ من التصوّر التراثي منطلقًا لاختيار المصطلح وبناء المفهوم، ولم يكن ذلك مجرّد استدعاء شكلي لمفردات التّراث، بل محاولة جادّة لإخضاع المفهوم لقواعد النظام اللساني العربي، وانسجامًا مع طبيعته وخصوصيّته، وعلى هذا النحو، فقد خالف بعض الباحثين المحدثين الذين حاولوا – في نظره – إسقاط المفاهيم الغربيّة على اللغة العربية، مع ما بين النظامين من اختلافٍ في البنية والمقوّمات، ولعلّ في هذا الاختيار ما يُشير إلى وعيٍ مبكّر بأهمية الانطلاق من خصوصية العربية، وليس بخافٍ أنّ هذا الموقف ينسجم مع ما تقدّم من الحديث عن عناية القدماء بمصطلحاتهم، وكيف سعوا إلى جعلها معبّرة عن أنساقهم الداخلية، لا عالةً على غيرهم من النظم.

وبناءً على ذلك، يتّضح – من خلال عرض رحموني – أنّ الحاجّ صالح لم يكن ناقلاً، بل مجدّدًا، فقد أعاد إحياء المصطلح العربيّ القديم في ضوء العلوم الحديثة، فحوّله من مجرّد وصفٍ تراثيّ إلى أداةٍ منهجيّةٍ حيّةٍ تتيح دراسة الكلام المضطرب كما تُتيح فهم الكلام السَّليم، ومن هنا، تبدو مساهمته جسرًا حيًّا يصل بين التراث العربيّ واللسانيّات الحديثة، بما يمنح الدراسات اللسانيّة العربيّة آفاقًا أوسع ويؤكّد قابليتها الدائمة للتجديد.

ثالثاً: علم أمراض النطق واللغة في العصر الحديث

لقد أوضح محمد النوبي في دراسته أنّنا – في العصر الحديث – أمام علمٍ جديدٍ مستقلّ هو علم أمراض النطق واللغة (Speech-Language Pathology)، وهو علم يختصّ – كما يقول: – بـ "دراسة اضطرابات التواصل الإنسانيّ في مستويات متعدّدة: النطق، واللغة، والصوت، والطلاقة، والبلع" وقد نشأ هذا العلم في أعقاب الحرب العالميّة الثانية، حين دفعت الحاجات الإكلينيكيّة والآثار العصبيّة الناجمة عن الحروب إلى البحث في طرائق علاج اضطرابات النطق والكلام، فازدهر في أوروبا وأمريكا، ثم انتقل إلى بقيّة العالم.

ويشدّد النوبي على أنّ هذا التخصّص لا يُمارَس بجهود فرديّة، بل يقوم على تكوين أكاديميّ منظّم، ينهض به أخصائيون مؤهّلون يعملون في المستشفيات والمدارس ومراكز التأهيل، ومن أبرز الحالات التي يعالجها هؤلاء الأخصائيون – كما يذكر – اضطرابات النطق كاللّثغ، وتشويه المخارج، وحذف الأصوات، واضطرابات اللغة النمائيّة والمكتسبة، كما في حالات التوحّد ومتلازمة (داون)، واضطرابات الطلاقة مثل التأتأة والتلعثم، فضلاً عن الاضطرابات العصبيّة كـ (الحبسة الكلاميّة)، وعسر الكلام، وعسر الحركة اللفظيّة، ويضيف النوبي إلى ذلك مشكلات البلع والتغذية لدى الأطفال والبالغين، مبرزًا أنّ هذه الحالات "تستدعي تداخلاً يجمع بين الجانب الطبيّ والتربويّ".

ومن خلال عرضه يتبيّن أنّ القيمة الحقيقيّة لهذا العلم تكمن في أنّه يجمع بين بعدين قلّما اجتمعا: (البعد الطبيّ) الذي يركّز على التشخيص والعلاج السريريّ، و(البعد التربويّ) الذي يُعنى بالتأهيل وإعادة دمج الأفراد في بيئتهم الاجتماعيّة والتعليميّة، وهو بهذا – على حدّ تعبير النوبي – "يمثّل حلقة وصل بين اللسانيات والطبّ والتربية"، حيث تتحوّل المفاهيم النظريّة إلى ممارسة عمليّة تتيح للغة أن تستعيد قدرتها على الأداء والتواصل.


وهكذا يتبيّن لنا أنّ النظر إلى اللغة بوصفها كائنًا حيًّا ليس مجرّد صورة بيانية، بل هو مدخلٌ يكشف عن عمق الوعي الفكريّ عند العرب بضرورة الحفاظ على سلامة الكلام وحاجته إلى رعاية دائمة، وما استعرضناه من جهودٍ ودراسات، على تنوّع مناهجها وزواياها، يلتقي في هدف واحد هو التنبيه على ما قد يطرأ على اللغة من اختلالات، والسعي إلى وضع العلاج المناسب لها، فكما أنّ الجسد لا يُترك فريسة للداء دون طبٍّ يداويه، فإنّ اللغة لا ينبغي أن تُترك مهملةً يعتريها الاضطراب، فهي وعاء الفكر، وعنوان الهوية، وحياتها مرهونة بقدرتنا على صونها وتقويتها، ومن هنا، ينبغي بذل الخطى في طريق إيقاظ الوعي بضرورة رعاية اللغة في بعدها الاستعمالي، لتبقى حيّةً في نفوس النّاس.

المراجع

  • حفّار، عزّ الدين (2011). الأمراض اللغويّة وعلاجها عند ابن البنّاء المرّاكشي، الجزائر، مجلة اللغة العربية وآدابها، جامعة الجزائر.
  • رحموني، كلتوم (2021). أمراض الكلام عند الحاج صالح، (الحصر) أنموذجًا، مجلة قراءات، جامعة محمد خيضر بسكرة، المجلد 13، العدد 1، ص 67–79.
  • النوبي، محمد (2017). علم أمراض النطق واللغة، المجلة الدولية لعلوم وتأهيل ذوي الاحتياجات الخاصة، المجلد 2، العدد 1، ص 11–120.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

القبائل الّتي يُحتجّ بلغتها في أصول العربيّة

بقلم: الدكتور عبدالكريم اعقيلان عناصر الموضوع: - سبب تحديد القبائل الّتي يُحتجّ بلغاتها. - تحديد القبائل الّتي يُحتجّ بلغاتها. - تداخل عنصريّ الزّمان والمكان في الاحتجاج اللّغويّ. - تحديد القبائل الّتي لم يُحتجّ بلغاتها. المراجع: - الفارابي : الألفاظ والحروف - السيوطي : الاقتراح - السيوطيّ: المزهر - ابن جنّي: الخصائص - محمّد عبده فلفل: اللّغة الشّعريّة عند النّحاة - مصطفى الرّافعيّ: تاريخ آداب العرب ***** أولاً: سبب تحديد القبائل الّتي يُحتجّ بلغاتها: تدخل قضيّة القبائل الّتي يُحتجّ بلغاتها في أصول اللّغة من كونها المستند الّذي يعتمده اللّغويّون في تقعيد اللّغة، أو وضع القاعدة اللّغويّة، والكلام المُتداول هو المسرح الّذي استمدّ منه اللّغويّون شواهدهم اللّغويّة، وهو مساحةٌ كبيرة من شرائح المجتمع، الّذي تدور اللّغة في فلكه، وتنشأ في أحضانه. وقد كان السّبب الرّئيس لتحديد هذه القبائل مرتبطاً ارتباطاً وثيقاً بخدمة القرآن الكريم، وهو الكتاب المبين الّذي نزل بلسان العرب ولغتهم، وقد ترتّب على هذا الأمر أن يحرص اللّغويّون على اختيار المستوى ال...

نبذة مختصرة في علم البيان

بقلم  الدّكتور/ ضياء الدّين الحموز جاء الدرس البلاغيّ عند القدماء مدفوعاً برغبة معرفة دقائق اللغة العربيّة، وأسرارها، والكشف عن وجوه الإعجاز في نظم القرآن الكريم وصولاً إلى قوانين تمكنهم من الوقوف على مقاصد الشارع الحكيم، وتمكنهم من محاكاة أسلوب النظم القرآني المعجز، وقد انقسم الدرس البلاغيّ عندهم إلى ثلاثة أقسامٍ أساسيّة، هي: البيان، والمعاني، والبديع، وحديثنا في هذه الورقات مختصّ بالبيان.  يبحث علم البيان في وسائل التصوير الفنّي، وأهمّها : التشبيه، والكناية والاستعارة، ويقيم هذا العلم حتى وقت متأخّرٍ من الدراسات البلاغيّة القديمة فواصل بين هذه الأنواع الثّلاثة، وقد باتت هذه الأصول الثّلاثة- إن صحّ التعبير- تدخل في إطار ما يعرف الآن بـ (الصّورة الشّعريّة) أو (اللّوحة الفنّيّة).  ويمكن الوصول إلى البيان العربيّ من خلال مؤلفات الأقدمين الذين أثروا المكتبة العربيّة بذخائر الأدب والثقافة والعلوم اللّغويّة، ومن أشهر المؤلفات البلاغية التي عنيت بالبيان العربي قديماً: - البيان والتبيين : الجاحظ 255هـ. - البديع: عبدالله بن المعتزّ 296هـ.  - نقد الشّعر: قدامة بن جعفر 337هـ...

مقدّمة الجاحظ في كتاب الحيوان- عرض وتقديم

بسم الله الرّحمن الرّحيم  بقلم الدكتور عبدالكريم عبدالقادر اعقيلان   عمرو بن بحر الجاحظ، ومن لا يعرف أبا عثمان؟ هل يعيبه أنه نشأ يبيع الخبز، والسمك بنهر سيحان؟ أم لأنه أعجمي الأصل وينافح عن العربية؟ مالذي عابوه على هذا الرجل، حتى يقفوا أمامه يتعرضون لما يكتب، ويؤلف، وينشر؟  لن أدافع عنه…  بل في سيرة حياة هذا الرجل ما يقطع قول كل حكيم. وماذا أقول فيمن أخذ عن علماء اللغة، أصولها، فبرع فيها، حتى إنك لا تكاد تجد مؤلفاً في اللغة، إلا وفيه رأيٌ للجاحظ، أو شاهد؟. وهو الذي لم يكن يقع في يديه كتابٌ، إلا ويقرأه من أوله إلى آخره. بل لقد كان يكتري دكاكين الوراقين، يبيت فيها للقراءة، والنظر. وما هذه الكتب التي يقرأها؟ فيها من كل ما ترجم عن ثقافات الفرس، والهند، واليونان. ولم تكن ثقافة العرب ودينها، عنه ببعيدان.  لن أدافع عنه…  فلهذا الرجل لسانه، الذي نافح به عن العربية، في وجه الشعوبية، دفاعاً، لن تجد من أهل العربية، أنفسهم، من يدافع مثله. وهو الذي قال:" كلام العرب بديهة وارتجال، وكأنه إلهام".  لن أدافع عنه…  وهل هو بحاجةٍ إلى من يدافع عنه؟ وقد كان معتزلي الف...