التخطي إلى المحتوى الرئيسي

المعلّم، بين مؤشرات الأداء الكتابيّ ومؤشرات الأداء الصّفيّ



بسم الله الرحمن الرحيم




بقلم/ الدكتور عبدالكريم اعقيلان

يدعوني إلى الحديث عن هذا الموضوع، جدليّةُ التوفيق بين نتائج الأداء في الاختبارات الكتابية ونتائج الأداء في الأعمال الصّفّيّة، فالمعلّم يخشى من ظهور المفارقة بين درجات الأعمال الصفيّة ودرجات الاختبارات الكتابيّة، في حين يؤمن في قرارة نفسه أنّ مؤشرات أداء الاختبار الكتابي لا تنطبق ، حتمًا، على مؤشرات أداء الأعمال الفصليّة.
وقد مثلت هذه الجدليّة ظاهرةً يلمسها العاملون في سلك التربية والتعليم، خاصّة في المجالات التعليمية التي يكون المعلّم هو المسؤول فيها عن رصد تلك الدرجات، فلا نجد هذه الجدليّة حين يكون التقييم تحت إشراف وزارات التربية والتعليم، إذ تكون الاختبارات من تصميم تلك الوزارات، فلا يطلع المعلمون على محتواها، كما أنّ درجات هذه الاختبارات هي المرجع الأوحد الذي يُحدد نتيجة الطالب، وليس للمعلم، أو المؤسسة الأكاديميّة، كما هو الحال في شهادة الثانوية العامّة.
وإذا نظرنا إلى المسألة من زاوية موضوعيّة، نجد أنه تقع على كاهل المعلّم أمانةٌ كبيرة ليست محصورةً في الاهتمام بتقديم الإرشاد والتوجيه الشامل للمادة الدراسيّة فحسب، بل إنّ المعلّمَ مطالبٌ بتقديم أقصى معايير العدالة بين المتعلّمين، وخاصّة حين يكون التنافس بينهم يدخل في إطار الحصول على مرتبة الشرف، أو المنح الدراسيّة.
وأمّا إذا تناولنا الموضوع من زاوية (تقدير الأداء) الذي يقوم به المتعلّم في الصّفّ، فإنّنا سنجد أنّ على المعلّم أن يكون ذا حسّ إدراكيّ يتفاعل مع الجهد الذي يبذله المتعلمون في سبيل تحقيق مخرجات التّعلّم، فالمشاركة الصّفيّة، وأداء الواجبات الأكاديميّة، وتحضير مستلزمات الدرس، والالتزام بآداب الحصة الدرسيّة، من حضور وانصراف، ونحو ذلك، ينبغي أن تقاس وفق مؤشرات منصفة، فلا يصحّ أن يكون تقدير المتعلّم متدنّيًا في الوقت الذي يحرص معه على الأداء الصفّي بأقصى ما يستطيع.
وعلى الرغم من حتميّة التمايز بين المتعلّمين في مؤشرات الأداء، سواءً أكان ذلك في أداء الاختبارات، أم في الأداء الصّفّيّ، إلا أنّ العمل وفق مبدأ التمايز لا يُبنى فقط على النتيجة التي يُحققها الطالب، وحدها، بل إن التمايز ينبغي أن يكون من جانب المعلّم، أيضًا، حين يراعي الفروقات الفرديّة بين المتعلّمين في طريقة تعليمهم.
وأين نحنُ من حديث الرسول - صلى الله عليه وسلّم - الذي رواه البخاريّ: "مَثَلُ الَّذِي يَقْرَأُ القُرْآنَ، وَهُوَ حَافِظٌ لَهُ مَعَ السَّفَرَةِ الكِرَامِ البَرَرَةِ، وَمَثَلُ الَّذِي يَقْرَأُ، وَهُوَ يَتَعَاهَدُهُ، وَهُوَ عَلَيْهِ شَدِيدٌ فَلَهُ أَجْرَانِ"، فهذا مبدأٌ نستقيه من المعلّم الأول نبينا محمد - صلى الله عليه وسلّم - ويُفهم منه أنّ عمل الإنسان المتعلّم لا يخرج عن إطار المكافأة مهما كانت النتيجة، بعد أن يتأكّد لنا منه السعيُ الحثيث للوصول إلى الحقيقة أو الصواب العلميّ، والأخذ بأسباب ذلك.
ومن جانبٍ آخر، فإنّ تقدير أداء المتعلّم، يُخشى معه وقوع المعلّم في الظلم، وإن كان لتقييم الأداء مؤشراتٌ، إلا أنّ هذه المؤشرات تخضع لذوق المعلّم ومقدار قناعته باستيفاء تلك المعايير من قبل المتعلّم، فأيّ خشيةٍ أولى أن يضعها العلّم نُصبَ عينيه؟ أهي خشية مفارقة النتائج النهائيّة لنتائج الأداء الصّفّي؟ أم هل هي خشية ظلمِ المتعلّم الذي بذل أقصى ما يستطيع لتحقيق مخرجات التعلّم؟، والرسول - صلى الله عليه وسلّم - يقول في الحديث الذي رواه أبو داود: "القُضاةُ ثلاثة: واحِدٌ في الجنة، واثنان في النار، فأما الذي في الجنة فرجلٌ عَرفَ الحقَّ فقَضَى به، ورَجُلٌ عرف الحقَّ فجار في الحكم، فهو في النار، ورَجُلٌ قضى للنَّاس على جهلٍ، فهو في النار".
وقول الرسول - صلى الله عليه وسلّم : (ورَجُلٌ عرف الحقَّ فجار في الحكم) هو موطن الشاهد الذي أريد من المعلّمين أن ينتبهوا له، فالمعلّم هو الذي يعرف معيار الأداء، ومؤشر الأداء، ومدى نجاح المتعلّم في ذلك الأداء، فليس عليه من حرجٍ حين يتخذ القرار الذي هو أمانةٌ في عنقه، وليس عليه من حرجٍ حين تظهر المفارقة بين نتائج تقييم أداءٍ كتابيّ أو أداءٍ صفّيّ، طالما حرص على أداء مهمّته بأقصى درجات الأمانة في إيصال المعرفة، وتقدير أداء طلابه، فهو غير ملومٍ إن كان تقييم أداء المتعلّم في الأداء الصفيّ عاليًا وكانت نتيجته الكتابيّة أدنى من ذلك وإن كانت المفارقة كبيرة، والعكس صحيح، فظروف الأداء في الاختبار الكتابيّ قد يشوبها من المعيقات ما يحول دون تقديم أداءٍ متميّز، وهذا أمرٌ واضحٌ لا خلاف فيه.
ومن هنا، نجد أنّ المؤسسات الأكاديمية تمنح المعلمين الحق في تقدير نسبةٍ من درجات تقييم الطلاب تتفاوت ما بين 40- 70 % في بعض المؤسسات، وهذه النسبة هي من مسؤولية المعلّم، الذي ينبغي عليه أن يحرص على توثيق الكيفيّة التي قدر فيها درجات تقييم طلابه ومؤشرات الأداء التي اعتمدها، بالإضافة إلى حرصه على عدم إضاعة جهد طلابه واجتهادهم.
ولعل هذا الاتجاه في رفع نسبة التقييم للطلاب في الأداء الصفيّ هو اتجاهٌ أقرب إلى الموضوعيّة والإنصاف، فليس من المعقول أن تُحكمَ مسيرةُ عامٍ دراسيٍ أو فصلٍ دراسيّ باختبارٍ واحدٍ فإمّا أنْ ينجح وإمّا أن يرسب، مع التحفظ في هذا الشأن على موضوع شهادة الثانويّة العامّة، وما يتعلّق بها من خصوصيّة ليس المقام مهتمًّا بالبحث فيها.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

القبائل الّتي يُحتجّ بلغتها في أصول العربيّة

بقلم: الدكتور عبدالكريم اعقيلان عناصر الموضوع: - سبب تحديد القبائل الّتي يُحتجّ بلغاتها. - تحديد القبائل الّتي يُحتجّ بلغاتها. - تداخل عنصريّ الزّمان والمكان في الاحتجاج اللّغويّ. - تحديد القبائل الّتي لم يُحتجّ بلغاتها. المراجع: - الفارابي : الألفاظ والحروف - السيوطي : الاقتراح - السيوطيّ: المزهر - ابن جنّي: الخصائص - محمّد عبده فلفل: اللّغة الشّعريّة عند النّحاة - مصطفى الرّافعيّ: تاريخ آداب العرب ***** أولاً: سبب تحديد القبائل الّتي يُحتجّ بلغاتها: تدخل قضيّة القبائل الّتي يُحتجّ بلغاتها في أصول اللّغة من كونها المستند الّذي يعتمده اللّغويّون في تقعيد اللّغة، أو وضع القاعدة اللّغويّة، والكلام المُتداول هو المسرح الّذي استمدّ منه اللّغويّون شواهدهم اللّغويّة، وهو مساحةٌ كبيرة من شرائح المجتمع، الّذي تدور اللّغة في فلكه، وتنشأ في أحضانه. وقد كان السّبب الرّئيس لتحديد هذه القبائل مرتبطاً ارتباطاً وثيقاً بخدمة القرآن الكريم، وهو الكتاب المبين الّذي نزل بلسان العرب ولغتهم، وقد ترتّب على هذا الأمر أن يحرص اللّغويّون على اختيار المستوى ال...

نبذة مختصرة في علم البيان

بقلم  الدّكتور/ ضياء الدّين الحموز جاء الدرس البلاغيّ عند القدماء مدفوعاً برغبة معرفة دقائق اللغة العربيّة، وأسرارها، والكشف عن وجوه الإعجاز في نظم القرآن الكريم وصولاً إلى قوانين تمكنهم من الوقوف على مقاصد الشارع الحكيم، وتمكنهم من محاكاة أسلوب النظم القرآني المعجز، وقد انقسم الدرس البلاغيّ عندهم إلى ثلاثة أقسامٍ أساسيّة، هي: البيان، والمعاني، والبديع، وحديثنا في هذه الورقات مختصّ بالبيان.  يبحث علم البيان في وسائل التصوير الفنّي، وأهمّها : التشبيه، والكناية والاستعارة، ويقيم هذا العلم حتى وقت متأخّرٍ من الدراسات البلاغيّة القديمة فواصل بين هذه الأنواع الثّلاثة، وقد باتت هذه الأصول الثّلاثة- إن صحّ التعبير- تدخل في إطار ما يعرف الآن بـ (الصّورة الشّعريّة) أو (اللّوحة الفنّيّة).  ويمكن الوصول إلى البيان العربيّ من خلال مؤلفات الأقدمين الذين أثروا المكتبة العربيّة بذخائر الأدب والثقافة والعلوم اللّغويّة، ومن أشهر المؤلفات البلاغية التي عنيت بالبيان العربي قديماً: - البيان والتبيين : الجاحظ 255هـ. - البديع: عبدالله بن المعتزّ 296هـ.  - نقد الشّعر: قدامة بن جعفر 337هـ...

مقدّمة الجاحظ في كتاب الحيوان- عرض وتقديم

بسم الله الرّحمن الرّحيم  بقلم الدكتور عبدالكريم عبدالقادر اعقيلان   عمرو بن بحر الجاحظ، ومن لا يعرف أبا عثمان؟ هل يعيبه أنه نشأ يبيع الخبز، والسمك بنهر سيحان؟ أم لأنه أعجمي الأصل وينافح عن العربية؟ مالذي عابوه على هذا الرجل، حتى يقفوا أمامه يتعرضون لما يكتب، ويؤلف، وينشر؟  لن أدافع عنه…  بل في سيرة حياة هذا الرجل ما يقطع قول كل حكيم. وماذا أقول فيمن أخذ عن علماء اللغة، أصولها، فبرع فيها، حتى إنك لا تكاد تجد مؤلفاً في اللغة، إلا وفيه رأيٌ للجاحظ، أو شاهد؟. وهو الذي لم يكن يقع في يديه كتابٌ، إلا ويقرأه من أوله إلى آخره. بل لقد كان يكتري دكاكين الوراقين، يبيت فيها للقراءة، والنظر. وما هذه الكتب التي يقرأها؟ فيها من كل ما ترجم عن ثقافات الفرس، والهند، واليونان. ولم تكن ثقافة العرب ودينها، عنه ببعيدان.  لن أدافع عنه…  فلهذا الرجل لسانه، الذي نافح به عن العربية، في وجه الشعوبية، دفاعاً، لن تجد من أهل العربية، أنفسهم، من يدافع مثله. وهو الذي قال:" كلام العرب بديهة وارتجال، وكأنه إلهام".  لن أدافع عنه…  وهل هو بحاجةٍ إلى من يدافع عنه؟ وقد كان معتزلي الف...