التخطي إلى المحتوى الرئيسي

منطق اللغة وفوضى الأنماط - مثل من التذكير والتأنيث في اللغة العربية


بقلم/ الأستاذ الدّكتور محمود مبارك عبيدات
أستاذ اللّغة والنّحو
جامعة العلوم الإسلاميّة العالميّة - الأردنّ 

إنّ أنظمة اللغة كاملة ابتداء من النظام الصوتي فالصرفي فالنحوي فالدلالي تدل بجوانبها الكلية إلى أنّ اللغة – أي لغة – تسير وفق منطق شامل، أساسه الوضوح وفق القاعدة اللغوية العامة التي تنص على أنّ اللغة يجب أن تنأى عن الوقوع في اللبس، فقاعدة أمن اللبس هي القاعدة الكبرى التي يقوم عليها منطق اللغة، هذه اللغة التي يلجأ إليها الإنسان لتحقيق التواصل مع أبناء جلدته، أو مع غير أبناء جلدته بلغته أو بلغتهم. 

غير أنّ هذا المنطق العام الذي تنطلق منه كل اللغات يتعرض في بعض الأحيان إلى تمرُّد تمارسه عليه بعض الأنماط اللغوية التي تُظْهِرُ خروجا صارخًا على تلك القاعدة العامة التي يفترض أنها تحكم منطقية اللغة، ألا وهي قاعدة أمن اللبس، ومن هذه الأنماط ما نجده في ظاهرة التذكير والتأنيث، ولا سيّما فيما يُذكَّرُ ويؤنَّث من ألفاظ اللغة في آن واحد. 

شغلت مسألة التذكير والتأنيث بال الباحثين في علم اللغة من كافة الأجناس، حتى اعترف برجشتراسر – عالم اللغة العربية واللغات السامية الألماني – بأنّ هذا الباب من أغمض أبواب النحو وأعقدها لتعدد مسائله وإشكالاته التي لم يتوصل العلماء إلى حلّ شافٍ لها. 

لجأت اللغات إلى استعمال أدوات نحوية تميز بين المذكر والمؤنث، كتاء التأنيث وأَلِفَيْهِ في العربية مثلاً، ولكننا نجد في المقابل تمييزًا من نوع آخر بينهما، إذ تختار اللغة للمؤنث لفظًا يختلف عن لفظ المذكر، وذلك ككلمات (أب وأم)، (حمار وأتان)، و(جدي وعَناق) وغيرها، والغريب هنا أن نجد في اللغة لفظًا للمؤنث يختلف عن لفظ المذكر، ومع ذلك نجده يحمل علامة التأنيث وذلك نحو: (نعجة مؤنث كبش)، فإذا كان المؤنث مختلفًا في لفظه عن المذكر فما الدّاعي لوجود علامة التأنيث؟ 

مسائل كثيرة وكثيرة تطرح في هذا السياق، ولكن الحق يفرض علينا أن نُقيِّم بعض هذه المسائل التي نجدها في بعض اللغات وذلك بالنظر في طبيعة الشعوب الناطقة باللغات، أو بما يجاورها أو ينتمي إليها من لغات المجموعة الواحدة، فمن المعلوم مثلاً أنّ اللغة العربية واللغات السامية تميّز من حيث الجنس بين نوعين هما المذكر والمؤنث، أمّا اللغات الهندو-أوروبية ففيها جنس ثالث هو المحايد، والمنطق يفرض حقًا وجود هذا الطرف الثالث – وإن كنت لا أعدُّه جنسًا وإنما هو صنف قائم بذاته بعيدًا عن فكرة التذكير والتأنيث – وعلى الرغم من أنّ منطق اللغة يفرض وجوده إلا أنّنا لا نجده في اللغة العربية ولا في اللغات السامية التي انبثقت منها اللغة العربية. 

إنّ كلمات مثل: (الحجر والصخرة والجبل والتلة والقلم والكتاب والمستشفى والعدل والكرم والشجاعة) وغيرها، لا يُلحظ فيها تذكيرٌ وتأنيثٌ بالمفهوم الحقيقي لهذين الصنفين، إلا أنّ العرب ذكَّروا بعضًا منها وأنَّثوا بعضًا آخر، وهو أمر وإن كان يخالف منطق اللغة إلا أنه قد يفسَّر بالحسّ الرُّومانسيّ عند العرب والسّاميّين، فهم شعوب يتميّزون بخيالٍ نشيطٍ قادرٍ على إضفاء الحياة والجوانب الإنسانية على كل موجودات الحياة، فمنطق اللغة لا ينطلق عندهم من مبدأ الصدق والكذب، وإنّما ينطلق مما يحسّ ويشعر. 

ومن الأنماط التي تتمرد على منطق اللغة في باب التذكير والتأنيث تلك الألفاظ التي يجوز تذكيرها وتأنيثها في آن واحد، وذلك نحو: (السبيل والطريق والروح والكف والكبد والذراع والساق والريح والحال والحانوت والسكّين والضرس والفأس والقوس) وغيرها الكثير الكثير. 

إنّ البحث عن تفسير لهذه الظاهرة بهدف إعادة اللغة إلى منطقها يتطلّب كثيرًا من النظر في طبيعة تلك اللغات وطبيعة أبنائها، فمن الملاحظ أنّ الألفاظ المذكورة هي إمّا أن تكون من أعضاء الجسد، وإما أن تكون من الألفاظ التي يكثر استعمالها في اللغة، فكم كان يتعامل العربيّ مع الطّريق أو مع القوس أو الحانوت! ومن المعلوم أنّ ما يكثر استعماله في اللغة يكون عرضة للتغير أكثر مما يقل استعماله، هذه واحدة، والأخرى أنّ كثيرًا من الألفاظ جاز تذكيرها وتأنيثها باعتبار لفظها من جهة وباعتبار معناها الذي تستعمل فيه من جهة أخرى، فالألفاظ السابقة من جهة اللفظ تخلو من علامة تأنيث ولذلك فهي مذكّرة من هذه الناحية، ولكنها تؤدي وظائف براجماتية تناسب وظيفة المؤنث، فـ(الطريق) ومثلها (السبيل) بلفظها مذكّرة إلا أنّ معناها من (الأرض) والأرض مؤنثة عندهم، وقد يكون للفظ الواحد معنيان أحدهما مذكر والآخر مؤنث، فكلمة (الروح) تعني: النفس، وهي آلة الحياة، فهي على هذا مؤنثة، ولكنها تعني كذلك: جبريل عليه السلام، فهي بذلك مذكَّرة. 

ويجب ألَّا ننسى اختلاف اللهجات وأثرها في نشوء هذا التمرّد فقد كان أهل تهامة يقولون: (العُضُد والعُضْد)، و(العُجُز والعُجْز) ويؤنّثونهما، وتميم تقول: (العَجُز والعَضُد) ويذكِّرونهما. 

إنّ حسن الظّنّ باللغة وبأبنائها الناطقين بها ومن ثَمّ البحث عن الأسباب التي أدت إلى نشوء أنماطٍ ظاهرُها التمرُّد على منطقية اللغة يعيد اللغة إلى نصابها القائم على أمن اللبس واطّراد الظّواهر اللغوية، وإن بدت على غير ذلك.

الأستاذ الدّكتور/ محمود مبارك عبيدات


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

القبائل الّتي يُحتجّ بلغتها في أصول العربيّة

بقلم: الدكتور عبدالكريم اعقيلان عناصر الموضوع: - سبب تحديد القبائل الّتي يُحتجّ بلغاتها. - تحديد القبائل الّتي يُحتجّ بلغاتها. - تداخل عنصريّ الزّمان والمكان في الاحتجاج اللّغويّ. - تحديد القبائل الّتي لم يُحتجّ بلغاتها. المراجع: - الفارابي : الألفاظ والحروف - السيوطي : الاقتراح - السيوطيّ: المزهر - ابن جنّي: الخصائص - محمّد عبده فلفل: اللّغة الشّعريّة عند النّحاة - مصطفى الرّافعيّ: تاريخ آداب العرب ***** أولاً: سبب تحديد القبائل الّتي يُحتجّ بلغاتها: تدخل قضيّة القبائل الّتي يُحتجّ بلغاتها في أصول اللّغة من كونها المستند الّذي يعتمده اللّغويّون في تقعيد اللّغة، أو وضع القاعدة اللّغويّة، والكلام المُتداول هو المسرح الّذي استمدّ منه اللّغويّون شواهدهم اللّغويّة، وهو مساحةٌ كبيرة من شرائح المجتمع، الّذي تدور اللّغة في فلكه، وتنشأ في أحضانه. وقد كان السّبب الرّئيس لتحديد هذه القبائل مرتبطاً ارتباطاً وثيقاً بخدمة القرآن الكريم، وهو الكتاب المبين الّذي نزل بلسان العرب ولغتهم، وقد ترتّب على هذا الأمر أن يحرص اللّغويّون على اختيار المستوى ال...

نبذة مختصرة في علم البيان

بقلم  الدّكتور/ ضياء الدّين الحموز جاء الدرس البلاغيّ عند القدماء مدفوعاً برغبة معرفة دقائق اللغة العربيّة، وأسرارها، والكشف عن وجوه الإعجاز في نظم القرآن الكريم وصولاً إلى قوانين تمكنهم من الوقوف على مقاصد الشارع الحكيم، وتمكنهم من محاكاة أسلوب النظم القرآني المعجز، وقد انقسم الدرس البلاغيّ عندهم إلى ثلاثة أقسامٍ أساسيّة، هي: البيان، والمعاني، والبديع، وحديثنا في هذه الورقات مختصّ بالبيان.  يبحث علم البيان في وسائل التصوير الفنّي، وأهمّها : التشبيه، والكناية والاستعارة، ويقيم هذا العلم حتى وقت متأخّرٍ من الدراسات البلاغيّة القديمة فواصل بين هذه الأنواع الثّلاثة، وقد باتت هذه الأصول الثّلاثة- إن صحّ التعبير- تدخل في إطار ما يعرف الآن بـ (الصّورة الشّعريّة) أو (اللّوحة الفنّيّة).  ويمكن الوصول إلى البيان العربيّ من خلال مؤلفات الأقدمين الذين أثروا المكتبة العربيّة بذخائر الأدب والثقافة والعلوم اللّغويّة، ومن أشهر المؤلفات البلاغية التي عنيت بالبيان العربي قديماً: - البيان والتبيين : الجاحظ 255هـ. - البديع: عبدالله بن المعتزّ 296هـ.  - نقد الشّعر: قدامة بن جعفر 337هـ...

مقدّمة الجاحظ في كتاب الحيوان- عرض وتقديم

بسم الله الرّحمن الرّحيم  بقلم الدكتور عبدالكريم عبدالقادر اعقيلان   عمرو بن بحر الجاحظ، ومن لا يعرف أبا عثمان؟ هل يعيبه أنه نشأ يبيع الخبز، والسمك بنهر سيحان؟ أم لأنه أعجمي الأصل وينافح عن العربية؟ مالذي عابوه على هذا الرجل، حتى يقفوا أمامه يتعرضون لما يكتب، ويؤلف، وينشر؟  لن أدافع عنه…  بل في سيرة حياة هذا الرجل ما يقطع قول كل حكيم. وماذا أقول فيمن أخذ عن علماء اللغة، أصولها، فبرع فيها، حتى إنك لا تكاد تجد مؤلفاً في اللغة، إلا وفيه رأيٌ للجاحظ، أو شاهد؟. وهو الذي لم يكن يقع في يديه كتابٌ، إلا ويقرأه من أوله إلى آخره. بل لقد كان يكتري دكاكين الوراقين، يبيت فيها للقراءة، والنظر. وما هذه الكتب التي يقرأها؟ فيها من كل ما ترجم عن ثقافات الفرس، والهند، واليونان. ولم تكن ثقافة العرب ودينها، عنه ببعيدان.  لن أدافع عنه…  فلهذا الرجل لسانه، الذي نافح به عن العربية، في وجه الشعوبية، دفاعاً، لن تجد من أهل العربية، أنفسهم، من يدافع مثله. وهو الذي قال:" كلام العرب بديهة وارتجال، وكأنه إلهام".  لن أدافع عنه…  وهل هو بحاجةٍ إلى من يدافع عنه؟ وقد كان معتزلي الف...