التخطي إلى المحتوى الرئيسي

اتفاق الصورة واختلاف الدلالة في الصيغة الصرفية - صيغ الواحد والجمع أنموذجًا


بقلم/ الدكتور عبدالعزيز سعيد الزّهراني 
المملكة العربية السعودية 
وزارة التعليم 
الإدارة العامة للتعليم بمحافظة الطائف 
مكتب تعليم شرق الطائف

        يتصل بالصيغة العديدُ من القضايا المختلفة، ومن تلك القضايا، قضيةُ توافق البنى الصرفية في الشكل واختلافها في المعنى أو الدلالة، وهي إحدى أنماط المشترك الصرفي، تلك القضية التي سجلت حضورا بارزا ليس على مستوى العربية فحسب، بل في كثير من أنظمة اللغات الصرفية.

وفي هذه المقالة سنركز الحديث حول توافق بنية الصيغة أو شكلها واختلاف دلالتها في صيغ معنيين متقابلين هما: الواحد والجمع، ولا شك أنه نمط لطيف يكشف لنا عن عمق العربية وحيوية صيغها.

ومن ذلك صيغة (فُعْل) في قوله تعالى: {فَأَنجَيْنَاهُ وَمَن مَّعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُون} [الشعراء، 119]. وقوله تعالى: {حَتَّى إِذَا كُنتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِم} [يونس:22]. حيث جاءت في الآية الأولى للدلالة على المفرد بدليل إفراد مشحون، وفي الآية الثانية استعملت جمعا بدليل وجرين.

وفي تفسير هذه الظاهرة انقسم العلماء فريقين: فريق يرى أن (فُلْكًا) مما يقال للواحد والجمع؛ أي أنها اسم جمع بمنزلة نساء، ورهط، وبشر، وصَحْب، ورَكْب.

وآخر يرى أن علاقة التقاطع بين الصيغة في الموضعين جاءت نتيجة عامل التعاقب الذي لعب دورا في توجيه المتكلم بالنطق بها تارة مع المفرد وتارة مع الجمع، ففُعْلٌ تعاقب فَعَلًا على المعنى الواحد، كالشُغْل والشَغَلِ، والبُخْلِ والبَخَل، والعُجْمِ والعَجَم، والعُرْب والعَرَب. وفَعَلٌ مما يكسر على فُعْل كأَسَد وأسْد، ووَثَنٍ ووُثْن؛ فلما كانت فُعْل وفَعَل أختين معتقبتين على المعنى جاز أن يكسر فُعْلٌ على فُعْل[1]. وهذا الرأي هو الأقوى في توجيه هذا الاشتراك؛ لأنه قد سُمِع من العَرَبِ (فُلْكانِ) مُثَنَّى (فُلْك)؛ وَمَا ثُنِّي جَمْعٌ مقدر التَّغْيِيرِ لَا اسْمَ جَمْع.

وتظهر علة التعاقب مجدَّدًا في صيغة (فِعَال) كهِجَان ودِلاص وكِناز، قالت العرب: نَاقَةٌ هِجانٌ، وجَمَل هِجانٌ، ونوقٌ هِجان للبيضاء خالصة اللون. ودِرْعٌ دِلاصٌ، وأَدْرُعٌ دِلاصٌ للبراقة الملساء، وناقة كِنَاز ونوق كِناز للمكتنزة اللحم. ففِعال تشبه فَعيل من حيث كونهما ثلاثيّين، ثالثهما حرف لين، وقد اعتقبا على الموضع الواحد، كما في كليب وكلاب وعبيد وعباد، مما جعلهم يعطون واحدة حكم الأخرى، فكسر أحدهما على ما كٌسر عليه صاحبه[2]، على أن بعض العلماء قد حمل هذه الألفاظ على باب (جُنُب)، أي أنها من المصادر التي يوصف بها فيستوي فيها لفظ الواحد والجمع والمذكر والمؤنث[3].  

ومن أنماط هذا التوافق ما نجده في صيغة (فَعلاء وفُعْلى) حيث أودع في هذه الصيغ ألفاظ احتملت الواحد والجمع، لكن ثمة علة صرفية مختلفة أفضت إليه. جاء عن العرب: حلفاءٌ وحلفاءُ واحدةٌ، وطرفاءٌ للجميع وطرفاءُ واحدةٌ، وبهمى للجميع وبهمى واحدة.

وقد فُسّر هذا التوافق أو الاشتراك بأن هذه الكلمات من أسماء الأجناس التي يفرق بينها وبين واحدها بالتاء، كتمر وتمرة، وشعير وشعيرة، لكن لما كان يترتب على دخول التاء في مفردها توارد علامتي تأنيث اكتفوا بعلامة واحدة مراعاة للقاعدة الصرفية، وبينوا الواحد بالوصف فقالوا: طرفاء واحدة، وبُهْمى واحدة[4].

ويلحق بالصيغتين السابقتين صيغة (فَعْلة) فقالوا: حَنْوة للدلالة على الواحد والجمع، وهي عشبة شديدة الخضرة طيبة الريح. والذي أدى إلى اشتراك هذا اللفظ بين الواحد والجمع هو مجيء علامة التأنيث في آخرها، فتركوها على حالها، وفصلوا الواحد بالصفة، فقالوا إذا أرادوا الكثير: (حَنْوَةٌ). وإذا أرادوا الواحد: حنوةٌ واحدةٌ[5].

ومن جانب آخر نجد أن هناك صيغا أخرى تتفق في داخلها ألفاظ المفرد والجمع لكن دون أن يكون هناك علة صرفية من داخل الصيغة يمكن حمل هذا الاشتراك عليها، ومنها (فَعْلى) كسكرى وعطشى وغضبى.

 فهذه الألفاظ تحتمل المفرد والجمع معا؛ ففَعْلى مفردا هي مؤنث (فَعْلان) قياسا من باب فَعِلَ يَفْعَلُ. ويجمع عليها أيضا كل وصف دل على آفة طارئة من موت أو ألم أو عيب أو نقص، وإلى هذا أشار الرضي بقوله: " ولا يبعد أن يكون سَكْرى ورَوْبى في مثل هذا الموضع مفردا مؤنثاً لِفعَلان، وذلك لأن مؤنث فَعْلاَن الصفة من باب فَعِلَ يَفْعَلُ قياسه فَعْلَى، وصفة المفرد المؤنث تصلح للجمع المؤنث[6]".  

وإذا عرفنا أن بين الواحد والجمع تدانيا وتقاربا من جهات كثيرة؛ أمكننا أن نحمل ما ورد من الألفاظ مشتركا بين الواحد والجمع على هذا التقارب، فهما قريبان من جهة المعنى حيث نجد الواحد تختلف معانيه كاختلاف معاني الجمع، فلكل مفرد معنى غير معنى المفرد الآخر، وكذلك جموع التكسير لا تتفق معانيها، فجمع أكثر من جمع، وجمع أقل من جمع، فهناك فرق بين أسطح وسطوح، وبين أَسْوِرَة وأَسَاوِر وأَسَاوِير أو أَسَاوِرة في جمع (سِوار)، وهذا الاتفاق يتحقق في المثنى ودلالته على الاثنين ليس غير.

ويظهر تقاربهما (أي: المفرد والجمع)، من جهة المبنى بتعدد صيغهما، فللجمع صيغ كثيرة منها: أفعال كأقلام، وأفْعُل كأثوب وفعول كسيوف، وفِعال كرماح. وكذلك المفرد، تتعد صيغه وتتنوع، فقد يجيء على فُعْل كرُمْح، وفِعال ككتاب. وقد تتوارد الصيغة الواحدة على المعنيين، أي أن المفرد يكون على صيغة من صيغ الجمع والعكس. ومن ذلك: كتابٌ (مفردا) ورجالٌ (جمعا) اشتركا في (فِعال).  وقُفْل (مفردا) وجُنْد (جمعا) اشتركا في (فُعْل). وعُنُق (مفردا) وعُمُد (جمع عِماد) اشتركا في (فُعُل). وصُرَد (مفردا) وغُرَفٌ (جمعا) اشتركا في (فُعَل). وسلطان (مفردا) وكُثْبان (جمعا) اشتركا في (فُعْلان). 

ثمة علاقة قوية تربط المفرد بالجمع تبرز من جهة إعراب كل واحد منهما، قال ابن جني: "بين الواحد والجمع من المضارعة ما ليس بين الواحد والتثنية، ألا تراك تقول: قصرٌ وقصورٌ، وقصرا وقصورا، وقصرٍ وقصورٍ، فتعرب الجمع إعراب الواحد، وتجد حرف إعراب الجمع حرف إعراب الواحد[7]".

ومهما يكن نوع هذا التوافق، فإن العرب لا تجد صعوبة في تعيين المراد بمعونة السياق وقرائنه، قال ابن جني: " فمجيء الجمع على لفظ الواحد يدل على قلة حفلهم بالفرق بينهما من طريق اللفظ، وأنهم اعتمدوا في الفرق على دلالة الحال ومتقدم ومتأخر الكلام[8]".

إلا أن علماء الصرف حرصوا على أن يكون لديهم معايير صرفية للتميز بين تلك الألفاظ المشتركة وذلك من خلال ما يعرف بالوزن التقديري، فيقال مثلا: إن كسرة الفاء في (هجان ودلاص) في الواحد ككسرة الفاء في كنازٍ وضناكٍ، وكسرة الفاء في هجانٍ ودلاصٍ في الجمع، ككسرة الفاء في كِرام ولئام[9]،وكذلك الضمة في فاء (فُلْك) - وأنت تريد الواحد - كالضمة في قاف (قُفْل) وخاء (خُرْج)، وهي في الفلك - وأنت تريد الجميع - كضمة حاء حُمْر وصاد صُفْر[10].


الدكتور عبدالعزيز سعيد الزهراني

الهوامش

[1] ينظر: الخصائص، ط2، (1371هـ/1952م) تحقيق: محمد علي النجار، القاهرة: دار الكتب المصرية 2/103. 
[2] المصدر السابق. 
[3] نسب الرضي هذا الرأي لأبي عمرو الجرمي، انظر: شرح شافية ابن الحاجب (1395هـ/1975م) تحقيق: محمد نور الحسن، محمد الزفزاف، محمد محيي الدين عبد الحميد، لبنان: دار الكتب العلمية 2/135. 
[4] ينظر: سيبويه، الكتاب، ط3(1408هـ/1988م) تحقيق: عبد السلام هارون، القاهرة: مكتبة الخانجي 3/596. 
[5] ينظر: ابن يعيش، شرح المفصل، ط 1(1422هـ/2001م) تحقيق: إميل بديع يعقوب، بيروت: دار الكتب العلمية 3/337. 
[6] الرضي، شرح شافية ابن الحاجب 2/145. 
[7] ابن جني، علل التثنية، تحقيق: صبيح التميمي، مصر: مكتبة الثقافة الدينية 77. 
[8] ابن جني، سر صناعة الإعراب، ط1(1421هـ) تحقيق: أحمد رشدي-محمد فارس، بيروت: دار الكتب العلمية 2/258-259. 
[9] ينظر: ابن جني، الخصائص، مرجع سابق 2/103. 
[10] ينظر: ابن جني، المحتسب في تبيين وجوه شواذ القراءات والإيضاح عنها، تحقيق: علي النجدي ناصف وعبد الحليم النجار وعبد الفتاح شلبي(1420هـ) وزارة الأوقاف، المجلس الأعلى للشئون الإسلامية1/352. 

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

القبائل الّتي يُحتجّ بلغتها في أصول العربيّة

بقلم: الدكتور عبدالكريم اعقيلان عناصر الموضوع: - سبب تحديد القبائل الّتي يُحتجّ بلغاتها. - تحديد القبائل الّتي يُحتجّ بلغاتها. - تداخل عنصريّ الزّمان والمكان في الاحتجاج اللّغويّ. - تحديد القبائل الّتي لم يُحتجّ بلغاتها. المراجع: - الفارابي : الألفاظ والحروف - السيوطي : الاقتراح - السيوطيّ: المزهر - ابن جنّي: الخصائص - محمّد عبده فلفل: اللّغة الشّعريّة عند النّحاة - مصطفى الرّافعيّ: تاريخ آداب العرب ***** أولاً: سبب تحديد القبائل الّتي يُحتجّ بلغاتها: تدخل قضيّة القبائل الّتي يُحتجّ بلغاتها في أصول اللّغة من كونها المستند الّذي يعتمده اللّغويّون في تقعيد اللّغة، أو وضع القاعدة اللّغويّة، والكلام المُتداول هو المسرح الّذي استمدّ منه اللّغويّون شواهدهم اللّغويّة، وهو مساحةٌ كبيرة من شرائح المجتمع، الّذي تدور اللّغة في فلكه، وتنشأ في أحضانه. وقد كان السّبب الرّئيس لتحديد هذه القبائل مرتبطاً ارتباطاً وثيقاً بخدمة القرآن الكريم، وهو الكتاب المبين الّذي نزل بلسان العرب ولغتهم، وقد ترتّب على هذا الأمر أن يحرص اللّغويّون على اختيار المستوى ال...

نبذة مختصرة في علم البيان

بقلم  الدّكتور/ ضياء الدّين الحموز جاء الدرس البلاغيّ عند القدماء مدفوعاً برغبة معرفة دقائق اللغة العربيّة، وأسرارها، والكشف عن وجوه الإعجاز في نظم القرآن الكريم وصولاً إلى قوانين تمكنهم من الوقوف على مقاصد الشارع الحكيم، وتمكنهم من محاكاة أسلوب النظم القرآني المعجز، وقد انقسم الدرس البلاغيّ عندهم إلى ثلاثة أقسامٍ أساسيّة، هي: البيان، والمعاني، والبديع، وحديثنا في هذه الورقات مختصّ بالبيان.  يبحث علم البيان في وسائل التصوير الفنّي، وأهمّها : التشبيه، والكناية والاستعارة، ويقيم هذا العلم حتى وقت متأخّرٍ من الدراسات البلاغيّة القديمة فواصل بين هذه الأنواع الثّلاثة، وقد باتت هذه الأصول الثّلاثة- إن صحّ التعبير- تدخل في إطار ما يعرف الآن بـ (الصّورة الشّعريّة) أو (اللّوحة الفنّيّة).  ويمكن الوصول إلى البيان العربيّ من خلال مؤلفات الأقدمين الذين أثروا المكتبة العربيّة بذخائر الأدب والثقافة والعلوم اللّغويّة، ومن أشهر المؤلفات البلاغية التي عنيت بالبيان العربي قديماً: - البيان والتبيين : الجاحظ 255هـ. - البديع: عبدالله بن المعتزّ 296هـ.  - نقد الشّعر: قدامة بن جعفر 337هـ...

مقدّمة الجاحظ في كتاب الحيوان- عرض وتقديم

بسم الله الرّحمن الرّحيم  بقلم الدكتور عبدالكريم عبدالقادر اعقيلان   عمرو بن بحر الجاحظ، ومن لا يعرف أبا عثمان؟ هل يعيبه أنه نشأ يبيع الخبز، والسمك بنهر سيحان؟ أم لأنه أعجمي الأصل وينافح عن العربية؟ مالذي عابوه على هذا الرجل، حتى يقفوا أمامه يتعرضون لما يكتب، ويؤلف، وينشر؟  لن أدافع عنه…  بل في سيرة حياة هذا الرجل ما يقطع قول كل حكيم. وماذا أقول فيمن أخذ عن علماء اللغة، أصولها، فبرع فيها، حتى إنك لا تكاد تجد مؤلفاً في اللغة، إلا وفيه رأيٌ للجاحظ، أو شاهد؟. وهو الذي لم يكن يقع في يديه كتابٌ، إلا ويقرأه من أوله إلى آخره. بل لقد كان يكتري دكاكين الوراقين، يبيت فيها للقراءة، والنظر. وما هذه الكتب التي يقرأها؟ فيها من كل ما ترجم عن ثقافات الفرس، والهند، واليونان. ولم تكن ثقافة العرب ودينها، عنه ببعيدان.  لن أدافع عنه…  فلهذا الرجل لسانه، الذي نافح به عن العربية، في وجه الشعوبية، دفاعاً، لن تجد من أهل العربية، أنفسهم، من يدافع مثله. وهو الذي قال:" كلام العرب بديهة وارتجال، وكأنه إلهام".  لن أدافع عنه…  وهل هو بحاجةٍ إلى من يدافع عنه؟ وقد كان معتزلي الف...