صناعة المستحيل اللّغويّ
بقلم الدّكتور/ عبدالكريم عبدالقادر اعقيلان
تمهيد
النّظر إلى المستقبل يستدعي البحث عن آليّات تمكّن من مسايرة التّغييرات التّكنولوجيّة الموجّهة لتوظيف اللّغات توظيفًا فعالاً في ميدان الذّكاء الاصطناعيّ وخاصّةً في مجال (الرّوبوتات – Robots) التي تدلّ المؤشّرات على مستقبلٍ زاهرٍ لهذه التقنيّة في ضوء الثّورة التّكنولوجيّة الصّارخة، ومن هنا، نقدّم في هذا المقال رؤية فلسفيّة تسلّط الضّوء على مظهر لغويّ يُشكّل تحدّيًا أمام تفعيل آليّات الذّكاء الصّناعيّ في الاستخدام اللّغويّ الفعّال المقارب للعقل البشريّ، ألا وهو: المستحيل اللّغويّ، الذي ينظر إليه هذا المقال نظرةً مجازيّة في التّعريف بعيدًا عن المفهوم المدرج في كتابات اللّغويّين والأدباء، انطلاقًا من الفلسفة التّداوليّة التي تُعالج الأفعال الكلاميّة المنجزة في سبيل الوصول إلى القصد والأثر في المتلقّي الذي تكون معه المعاني المدركة في حالة المستحيل اللّغويّ الذي ليس له مظهرٌ لغويٌّ.
وسيكون الحديث في هذا المقال موزّعًا على ثلاثة أقسام:
الأوّل: المستحيل اللّغويّ عند اللّغويّين والأدباء
الثّاني: المستحيل اللّغويّ – تأسيس مجازيّ
الثّالث: نماذج من صناعة المستحيل اللّغويّ
أوّلاً: المستحيل اللّغويّ عند اللّغويّين والأدباء
يرد مفهوم المستحيل اللّغويّ في كتب اللّغة مرتبطًا بجانبيّ اللّفظ والمعنى، وقد أشار (ابن جنّي – 392هـ) إلى هذين الجانبين في كتاب الخصائص تحت عنوان "باب في المستحيل، وصحة قياس الفروع على فساد الأصول"([1])، ولم يخرج في ذلك عن حدود دلالة المستحيل في المعاجم اللّغويّة على معنى الكلام لغير شيءٍ في مقابل الكلام المستقيم الذي يكون لشيءٍ([2])، فهو يحمل معنًى يستندُ إلى مبدأ الصّواب أو الخطأ، وحُكمٌ مرتبطٌ بلفظٍ لغويّ يُحكم من خلاله على صواب المعنى أو خطئه أو صحّة بناء الألفاظ والتّراكيب وخطئها.
وكذلك الحال في السّياق الأدبيّ([3]) إذ يُنظر للمستحيل على أنّه مظهرٌ من مظاهر الاختلاق أو (الابتكار) اللّغويّ، وقد أورده (حازم القرطاجنّي – 608هـ) في معرض حديثه عن الصّدق والكذب في الشّعر، مفسّرًا مفهوم المستحيل بأنّه "ما لا يصح وقوعه في وجود، ولا تصوره في ذهن، كـ(كون الإنسان قائمًا قاعدًا في حال واحدة)"([4])، فالشّعر الصّادق هو ما خلا من التّعابير مستحيلة الوقوع أو التي تقيّدها قرائن تكذّبها.
وممّا سبق، يظهر أنّ المستحيل اللّغويّ يستند إلى مظهر مادّي يتمثّل في المخرجات اللّغويّة من الألفاظ والتّراكيب التي تحتكم إلى أنظمة اللّغة النّحويّة والصّرفيّة والصّوتيّة والدّلاليّة، التي تُعدُّ مؤثّرات لتقييد ذلك الأداء، يُبقيه أسير الحكم على صوابه وخطئه أو صدقه وكذبه، ويُمارس فيها العقل البشريّ دورًا مباشرًا في إطلاق هذه الأحكام سواءً أكانت أحكامًا من المتكلّم ليُعيد تصويب مقالته أم أحكامًا من المتلقّي الذي يُقابلها بالرّفض أو القبول، بما يمتلكه من قدرات كامنة تؤهّله لتفعيل هذا الإطلاق الحكميّ، ولا ينفي ذلك وجود عوامل مؤثّره في هذا الإطلاق تتعدّى إطار المحتوى اللّغويّ لتشمل العوامل التّربويّة والذّاتيّة والثّقافيّة والاجتماعيّة والتّجارب الإنسانيّة المستمدّة من التّفاعل مع الأداءات اللّغويّة المتنوّعة، فالنّظر إلى حالة لغويّة مادّيّة على أنّها من باب المستحيل اللّغويّ هو نتيجة لتأثير هذه العوامل في الحكم على وجود الاستحالة أو عدمها.
ثانيًا: المستحيل اللّغويّ – تأسيس مجازيّ
إنّ ثمّةَ جانبًا في المستحيل اللّغويّ لا ينطلق من زاوية الصّواب والخطأ، أو الصّدق والكذب، بل هو مستحيل تفرضه سياقات تداوليّة للتّعبير اللّغويّ تَمتَنِعُ فيه العبارة وتُختَصَرُ فيه الكلمات ويُترَكُ إدراك معناه ووقوع تأثيره إلى العقل والحكمة التي يتمتّع بها المتلقّي، فهو مستحيلٌ من جانب استحالة قيام المرسل أو المتكلّم بترجمة كامل المعنى المكنون في نفسه إلى لغةٍ تعبيريّة، وقد يستعيض عن ذلك بجملة من الأفعال الكلاميّة التي توصل المتلقّي إلى المعنى المقصود الذي استحال التّعبير عنه بهدف التّأثير فيه، فهي "ليست مجرد دلالات ومضامين لغوية، بل هي فوق ذلك إنجازات وأغراض تواصلية ترمي إلى صناعة أفعال ومواقف اجتماعية أو مؤسساتية أو فردية بالكلمات، والتأثير في المخاطب بحمله على فعل أو تركه، أو دعوته إلى ذلك أو تقرير حكم من الأحكام أو توكيده، أو التشكيك فيه، أو نفيه، أو وعد المتكلم للمخاطب، أو وعيده أو سؤاله، أو استخباره عن شيء أو نفيه، أو إبرام عقد من العقود أو فسخه، أو مجرد الإفصاح عن حالة نفسية معينة، ومن منظور التداولية لا تكون اللغة مجرد أداة للتواصل كما تتصورها المدارس الوظيفية، أو رموزا للتعبير عن الفكر كما تتصورها التوليدية التحويلية، وإنما هي أداة لتغيير العالم وصنع أحداثه والتأثير فيه"([5]).
ومفهوم الحكم باستحالة الفعل الكلاميّ يتمثّل في عدم تقديم مظاهر لغويّة تُصوّره أو محتوًى لغويّ يُعبّر عنه تعبيرًا مباشرًا، فهو لا يخضع لمعايير الحكم بالصّواب أو الخطأ ولا لمعايير الصّدق أو الكذب وإنّما تتمثّل استحالته في عدم إخراجه إلى حيّز الأداء اللّغويّ فهو غير مستحيلٍ في الوجود من الجانب الفلسفيّ وإنّما هو مستحيلٌ من النّاحيّة التّعبيريّة للأداء اللّغويّ ويظهر في صورة علاقة ذهنيّة متعارفٍ عليها بين المرسل والمتلقّي تربط الدّالّ بالمدلول الضّمنيّ الذي يقصده المتكلّم وتُؤثّر في نفس المتلقّي، فهو ليس خطأً ولا كذبًا، بخلاف مفهوم المستحيل لدى اللّغويّين والأدباء الذي يملك مظهرًا لغويًّا يجعله عرضةً للحكم بأنّه خطأٌ أو كاذب.
ومن الأشكال التّداوليّة التي يُمكن أن يظهر فيها المستحيل اللّغويّ وفق المفهوم السّابق ما يأتي:
أوّلاً: استخدام تعبيرات لغويّة رمزيّة موجزة، مؤثّرة في المتلقّي وتحمله إلى المقصد الذي يرمي إليه المتكلّم ويسعى للحصول عليه، مثل:
- التّعبير عن الشّكر، بقولك: (لساني يعجز عن شكركم – لا تسعفني الكلمة للتّعبير عن شكري)
- التّعبير عن الحب، بقولك: (لا تسعفني الكلمة للتعبير عن حبّكم – لا يُمكنني وصف مقدار الشّوق إليكم)
ثانيًا: لغة الجسد، باعتبارها علامات غير لغويّة لكنها تمتلك مفهوم اللّغة بما تحدثه من أثر في نفس المتلقّي، ومن أمثلتها: تعابير الوجه، والصّمت في بعض المواقف، والخروج من المجلس بعد جدال عقيم، وغيرها.
مؤثّرات في المستحيل اللّغويّ
إنّ عمليّة تحويل المعاني إلى مادّة لغويّة، أي نقلها من حالة المستحيل اللّغويّ إلى الواقع اللّغويّ تخضع لجملة من المؤثّرات، ومن هذه المؤثّرات:
- الوقت، فقد يكون المتكلّم محصورًا بوقت محدّد يفرض عليه الصّمت أو إيجاز كلماته، فيضطرّ إلى التّعبير بموادّ لغويّة يُمكن أن تُخفي ورائها كثيرًا من المعانيّ التي باتت مستحيلة النقل إلى الواقع اللّغويّ، ويبقى لفعله الكلاميّ أثره المقصود الذي بلغ إلى المتلقّي.
- طبيعة العلاقة بين المتكلّم والمتلقّي، فطبيعة أطراف عمليّة التّواصل تفرض أن يكون الإرسال والاستقبال مقيّدًا بحدود هذه العلاقة مما يفرض على أحد الطّرفين الاكتفاء بالصّمت أو إيجاز كلامه، ويكون في ذلك تحقيقًا للقصد من التّواصل وتأثيره في المتلقّي.
- تقدير الأثر المترتّب على التّعبير اللّغويّ، ففي بعض المواقف يكون الصّمت أبلغ من الكلام، وفي مواطن أخرى يكون الإيجاز أبلغ من الاسترسال.
- المقصد من التّعبير اللّغويّ، ويُعد هذا الأثر هو أهم المؤثّرات في الوصول إلى إدراك المستحيل اللّغويّ، فوصول المتلقّي إلى مقصد المتكلّم يعني الوصول إلى المستحيل الذي لم يتم التّعبير عنه لغويًّا.
ومن خلال ما سبق، يظهر أنّ المستحيل اللّغويّ من الجانب المجازيّ الذي اختطّه هذا المقال لنفسه، تمثّل في جملة المعاني والمقاصد والدّلالات التي لا تظهر في صورة لغويّة ما، وهي أيضًا ليست خاضعة لمقياس الصّواب والخطأ أو الصّدق والكذب، وإنّما يتمثّل في ما وراء النّصّ من مدلولات ومعانٍ ومقاصد، تخضع لجملة من المؤثّرات التي تحول بينها وبين انتقالها إلى حيّز الواقع اللّغويّ دون أن يعني ذلك استحالة وجودها في الحقيقة، ويبقى التّحدّي في ظلّ الثّورة التّكنولوجيّة هو في كيفيّة نقل هذا المستحيل اللّغويّ إلى الآلة التي لتصبح قادرة على التّفاعل معه وتوظيف آثاره في عمليّة التّواصل مع البشر.
ثالثًا: نماذج من صناعة المستحيل اللّغويّ
في ظل التّقدّم التكنولوجيّ والإصرار الذي تقدّمه البشريّة للوصول إلى أقصى درجات الابتكار والاستفادة من معطيات التّكنولوجيا الذّكيّة، ظهرت مجموعة من النّماذج التي انتقلت في توظيف اللّغة إلى مرحلة صناعة المستحيل اللّغويّ وفق المفهوم الذي أسسناه سابقًا، وهنا نعرض لمجموعة من هذه النّماذج وأبرز الخصائص التي تُعبّر فيها عن هذا المستحيل:
الرّوبوت (EVA)([6])
صُمّم هذا الرّوبوت من قبل مهندسين أمريكيّين، حيث أنشأوا آلية تعلم عميقة، على طريقة التجربة والخطأ، حيث كان الروبوت يتدرب على التعبير الصحيح عن مشاعره، من خلال متابعته لحالة وجهه بمساعدة الفيديو، وبهذه الطريقة تعلم الروبوت (EVA) أولاً على التحكم بمنظومة العضلات الميكانيكية المعقدة، ومن ثم تحديد أي تعبير يجب أن يظهر على وجهه، استنادًا إلى تعابير وجوه الأشخاص المحيطين.
الرّوبوت (Walker X)
هو روبوت من صنع شركة Ubtech Robotics الصّينيّة، وهو "يحتوي...على نظام التعرف على الكلام والتركيب الصوتي، وتحاكي الشاشة الكبيرة الموجودة على الرأس تعابير الوجه للعينين، حيث تعبر عن ما يصل إلى 28 نوعًا من المشاعر"([7]).
روبوت الشّرطيّ الآليّ – شرطة دبيّ
هو عبارة عن روبوت تستخدمه شرطة دبي " يستطيع ... كشف المشاعر وحركة الأجسام والتعرّف على الإيماءات وإشارات اليد عن بعد، كما يمكنه رصد تعابير السعادة والحزن والابتسام على وجوه الناس ... [وتقديم] الخدمات للجمهور عبر 6 لغات مختلفة بما فيها العربية والإنجليزية وغيرها، فضلاً عن إمكانية الدردشة والتفاعل والرد على استفسارات الجمهور والمصافحة وتقديم التحيّة العسكرية"([8]).
(شامة) – روبوت مغربيّ
هو روبوت مصمّم على شكل امرأة "وله القدرة على تمييز الأحاسيس وتحليل تعابير الوجه، كما يستطيع التعرف على المحيط فضلا عن الإجابة عن مجموعة من الأسئلة المتعلقة بالثقافة العامة"([9]).
تحدّيات هذه الرّوبوتات
تُشير بعض الدّراسات إلى مجموعة من التّحدّيات تواجه توظيف الرّوبوتات في مجال التّفاعل مع الإنسان على الصّعيد اللّغويّ، من هذه التّحدّيات الأعطال التّقنيّة بدرجة أولى، إضافة إلى الحاجة إلى التّوجيه والبرمجة الإلكترونيّة لنظام الرّوبوت، علمًا بأنّ التّقنية الحديثة أوصلت الرّوبوتات إلى درجة من التقدم إذ باتت قادرة على محاكاة الإنسان والتّعلم من الخطأ والصّواب، وثمّة دراسات حول تطوير تقنية الرّوبوتات تُشير إلى ضعف توظيف هذه الرّوبوتات في مجال التّعليم خاصّة في المراحل التّعليميّة الدّنيا([10]).
وقدّمت إحدى الدّراسات مشروعًا تحت عنوان (نظام تشغيل التّفاعل بين الإنسان والرّوبوت) وهو نظام لا يسعى إلى جعل الرّوبوتات تعمل تمامًا كما الإنسان، وإنّما نظام لجعل الرّوبوت يعمل جنبًا إلى جنب مع الإنسان ويتم التّنسيق بينهما من خلال الحوار المتمثّل باللّغة والنصوص المقروءة ولغة الجسد([11]).
الخاتمة
يظهر مما سبق أنّ الثّورة التقنيّة في عالم الذّكاء الاصطناعيّ يُمكن أن تقدّم للبشريّة نماذج من الوسائل الصّناعيّة التي من شأنها أن تنقل العلاقة بين الإنسان والآلة إلى مرحلة متقدّمة من التّفاعل والاستفادة الممكنة من جميع الإمكانيّات العقليّة التي يمتلكها الإنسان، وأنّ الوصول إلى مرحلة صناعة المستحيل اللّغويّ المجازيّ باتت غير مستحيلة.
*****
([1]) يُنظر: ابن جنّي، الخصائص (3/332).
([2]) يُنظر: ابن منظور، لسان العرب (11/184)، مادة (حول).
([3]) يُنظر: خالد سليمان، لغة الشّعر بين الممكن والممتنع والمستحيل، مجلّة أبحاث اليرموك، سلسلة الآداب واللّغويّات، (مج 13)، (ع 1)، 1995م، (ص263 – 284).
([4]) يُنظر: القرطاجنّي، منهاج البلغاء وسراج الأدباء (ص23).
([5]) خلف الله بن علي، التداولية مقدمة عامة، مجلة اتحاد الجامعات العربية للآداب، (مج 14)، (ع 1)، 2017م، ص224.
([6]) يُنظر: روبوت جديد ينسخ مشاعر الإنسان، موقع روسيا اليوم (RT). تاريخ النّشر: 03.06.2021 .
([7]) يُنظر: إنسان آلي يتكلم ويلعب الشطرنج ويصعد السلم ويميز المشاعر، ترجمة: سمير سعيد، موقع الإمارات اليوم، تاريخ النّشر: 12.07.2021
([8]) الروبوت وتطبيقات الذكاء الاصطناعي، البوابة الرسمية لحكومة دولة الإمارات العربية المتحدة.
([9]) الروبوت المغربي “شامة” يحصل على دعم أميركي، موقع AI، تاريخ النّشر: 28.01.2021.
([10])Thomas B. Sheridan, Human–Robot Interaction: Status and Challenges, HUMAN FACTORS, Vol. 58, No. 4, June 2016, pp. 525–532
([11]) Terrence Fong and others, The Human-Robot Interaction Operating System, HRI’06, March 2–4, 2006, Salt Lake City, Utah, USA