التخطي إلى المحتوى الرئيسي

لغة الاقتصاد وأثرها في التّواصل






 

لغة الاقتصاد

 تمثل اللغة إحدى الركائز الأساسية في حياة الإنسان؛ فهي وسيلته الأولى للتعبير عن ذاته، وأداته الجوهرية في التواصل مع محيطه. غير أن وظيفة اللغة لا تقتصر على كونها أداة للتخاطب، بل تتجاوز ذلك لتؤثر في طريقة إدراكنا للواقع، وتشكّل أنماط تفكيرنا، وتحدد آليات معالجتنا للمعلومات وفهمنا للخطاب الموجّه إلينا أو الصادر عنا.

 وفي هذا السياق، تبرز "لغة الاقتصاد" بوصفها نمطًا تخصصيًا من أنماط اللغة، يتم توظيفه في تحليل الظواهر الاقتصادية، وصياغة النظريات، وبناء المفاهيم المتعلقة بعالم المال والأعمال. وغالبًا ما توصف هذه اللغة بالتعقيد، لا بسبب بنيتها الاصطلاحية فحسب، بل لما تتطلبه من خلفية معرفية دقيقة، وقدرة على إدراك العلاقات السببية والكمّية في النصوص الاقتصادية. وعلى الرغم من ذلك، فإن تعلّم هذه اللغة ليس مستحيلاً، بل يمكن بلوغه من خلال التمرّس على المفاهيم الأساسية، وفهم دلالات المصطلحات التي تشكّل بنيتها.

أولًا: اللغة الاقتصادية وتأثيرها في الخطاب العام

 إن للغة الاقتصاد حضورًا متزايدًا في الخطاب اليومي، خاصة في ظل الأزمات العالمية المتلاحقة، ما أدى إلى إعادة تشكيل معاني بعض المفردات الشائعة. فعلى سبيل المثال، باتت كلمة "التضخم" لا تُفهم إلا في سياقها الاقتصادي؛ ففي أوقات النمو قد يُنظر إليه كعلامة على تحسّن الأداء الاقتصادي، بينما يتحوّل في فترات الركود إلى مؤشّر سلبي يُنذر بضعف القوة الشرائية وزيادة تكاليف المعيشة. ومثل ذلك يُقال في "الركود" و"الانكماش"، وغيرها من المفاهيم التي تغيّرت دلالتها باختلاف السياق التداولي.

ثانيًا: من المفاهيم الأساسية في اللغة الاقتصادية

     الناتج المحلي الإجمالي (GDP): هو إجمالي ما تنتجه دولة ما من سلع وخدمات خلال سنة معينة، ويُعد من أبرز المؤشرات المستخدمة في قياس صحة الاقتصاد.

     التضخم (Inflation): يتمثل في الارتفاع العام والمستمر في أسعار السلع والخدمات، ويُعد مؤشّرًا على تآكل القيمة الشرائية للعملة.

     البطالة (Unemployment): نسبة الباحثين عن عمل دون أن يتمكنوا من الحصول عليه، وتُعد هذه النسبة دليلًا على مدى كفاءة السوق وفاعلية السياسات الاقتصادية.

 ثالثًا: اللغة الاقتصادية من منظور سيميائي

 تعنى السيميائية – بوصفها علم الرموز والدلالات – بدراسة الكيفيات التي تُنتج بها المعاني، وما يتضمنه الخطاب من إيحاءات تتجاوز المعنى الظاهر. وحين تُطبَّق السيميائية على اللغة الاقتصادية، فإنها تكشف عن كيفيات بناء المعنى الاقتصادي، بدءًا من أصل المفردة ووظيفتها التداولية، مرورًا بموقعها في الثقافة الجماهيرية، وانتهاءً بقدرتها على التأثير في تصورات الجمهور.

 فكلمة "رأس المال" مثلًا، تعود إلى الأصل اللاتيني caput، وتعني "الرأس"، وكانت تُستخدم للدلالة على الثروة الحيوانية، ثم تطوّر معناها لتشمل كل أشكال الأصول والثروات. كما تُصوّر الثقافة الشعبية – عبر السينما والمسلسلات – الشركات الكبرى بوصفها كيانات جشعة، فيما تُظهِر الطبقات الكادحة بوصفها ضحية هذا النظام، ما يعكس الخلفية الثقافية للخطاب الاقتصادي.

رابعًا: الاقتصاد بوصفه لغة

 لا يخفى أن علم الاقتصاد ذاته يُعد "لغة" قائمة بذاتها، لها قواعدها ومفرداتها ومناهجها التحليلية، وقد أشار الاقتصادي الفرنسي توماس بيكيتي في كتابه الشهير "رأس المال في القرن الحادي والعشرين" إلى أن الاقتصاد علم تاريخي يستند إلى البيانات السابقة لفهم الحاضر وتوقع المستقبل. لكنه في الوقت ذاته، يخفي وراء نماذجه الافتراضية عددًا من الفرضيات التي قد لا يدركها غير المتخصصين.

 كما أن تعدد المدارس الفكرية في الاقتصاد (كالمدرسة الكلاسيكية، والكينزية، والنقدية، وغيرها) يفسّر التباين الكبير في تحليل الظواهر الاقتصادية، مما يجعل من الضروري على الباحث أو القارئ العادي أن يتحلّى بوعي نقدي يمكنه من التمييز بين تلك المقاربات.

خاتمة

 تظل اللغة أداة مركزية في صياغة المعرفة ونقلها، وخصوصًا حين يتعلق الأمر بخطاب اقتصادي موجه إلى جمهور غير متخصص. ومن ثم، فإن اختيار المفردات المناسبة، والوعي بالسياقات التداولية، ومعرفة الخلفية الثقافية للجمهور المتلقي، كلها عناصر لا بد من مراعاتها إذا أردنا للخطاب الاقتصادي أن يكون مفهومًا، مؤثرًا، وفاعلًا.

تعليقات

  1. شكرا على هذا المقال الرائع

    ردحذف
    الردود
    1. شكرًا على مرورك الكريم ... مع التحية والتقدير

      حذف

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

القبائل الّتي يُحتجّ بلغتها في أصول العربيّة

بقلم: الدكتور عبدالكريم اعقيلان عناصر الموضوع: - سبب تحديد القبائل الّتي يُحتجّ بلغاتها. - تحديد القبائل الّتي يُحتجّ بلغاتها. - تداخل عنصريّ الزّمان والمكان في الاحتجاج اللّغويّ. - تحديد القبائل الّتي لم يُحتجّ بلغاتها. المراجع: - الفارابي : الألفاظ والحروف - السيوطي : الاقتراح - السيوطيّ: المزهر - ابن جنّي: الخصائص - محمّد عبده فلفل: اللّغة الشّعريّة عند النّحاة - مصطفى الرّافعيّ: تاريخ آداب العرب ***** أولاً: سبب تحديد القبائل الّتي يُحتجّ بلغاتها: تدخل قضيّة القبائل الّتي يُحتجّ بلغاتها في أصول اللّغة من كونها المستند الّذي يعتمده اللّغويّون في تقعيد اللّغة، أو وضع القاعدة اللّغويّة، والكلام المُتداول هو المسرح الّذي استمدّ منه اللّغويّون شواهدهم اللّغويّة، وهو مساحةٌ كبيرة من شرائح المجتمع، الّذي تدور اللّغة في فلكه، وتنشأ في أحضانه. وقد كان السّبب الرّئيس لتحديد هذه القبائل مرتبطاً ارتباطاً وثيقاً بخدمة القرآن الكريم، وهو الكتاب المبين الّذي نزل بلسان العرب ولغتهم، وقد ترتّب على هذا الأمر أن يحرص اللّغويّون على اختيار المستوى ال...

نبذة مختصرة في علم البيان

بقلم  الدّكتور/ ضياء الدّين الحموز جاء الدرس البلاغيّ عند القدماء مدفوعاً برغبة معرفة دقائق اللغة العربيّة، وأسرارها، والكشف عن وجوه الإعجاز في نظم القرآن الكريم وصولاً إلى قوانين تمكنهم من الوقوف على مقاصد الشارع الحكيم، وتمكنهم من محاكاة أسلوب النظم القرآني المعجز، وقد انقسم الدرس البلاغيّ عندهم إلى ثلاثة أقسامٍ أساسيّة، هي: البيان، والمعاني، والبديع، وحديثنا في هذه الورقات مختصّ بالبيان.  يبحث علم البيان في وسائل التصوير الفنّي، وأهمّها : التشبيه، والكناية والاستعارة، ويقيم هذا العلم حتى وقت متأخّرٍ من الدراسات البلاغيّة القديمة فواصل بين هذه الأنواع الثّلاثة، وقد باتت هذه الأصول الثّلاثة- إن صحّ التعبير- تدخل في إطار ما يعرف الآن بـ (الصّورة الشّعريّة) أو (اللّوحة الفنّيّة).  ويمكن الوصول إلى البيان العربيّ من خلال مؤلفات الأقدمين الذين أثروا المكتبة العربيّة بذخائر الأدب والثقافة والعلوم اللّغويّة، ومن أشهر المؤلفات البلاغية التي عنيت بالبيان العربي قديماً: - البيان والتبيين : الجاحظ 255هـ. - البديع: عبدالله بن المعتزّ 296هـ.  - نقد الشّعر: قدامة بن جعفر 337هـ...

مقدّمة الجاحظ في كتاب الحيوان- عرض وتقديم

بسم الله الرّحمن الرّحيم  بقلم الدكتور عبدالكريم عبدالقادر اعقيلان   عمرو بن بحر الجاحظ، ومن لا يعرف أبا عثمان؟ هل يعيبه أنه نشأ يبيع الخبز، والسمك بنهر سيحان؟ أم لأنه أعجمي الأصل وينافح عن العربية؟ مالذي عابوه على هذا الرجل، حتى يقفوا أمامه يتعرضون لما يكتب، ويؤلف، وينشر؟  لن أدافع عنه…  بل في سيرة حياة هذا الرجل ما يقطع قول كل حكيم. وماذا أقول فيمن أخذ عن علماء اللغة، أصولها، فبرع فيها، حتى إنك لا تكاد تجد مؤلفاً في اللغة، إلا وفيه رأيٌ للجاحظ، أو شاهد؟. وهو الذي لم يكن يقع في يديه كتابٌ، إلا ويقرأه من أوله إلى آخره. بل لقد كان يكتري دكاكين الوراقين، يبيت فيها للقراءة، والنظر. وما هذه الكتب التي يقرأها؟ فيها من كل ما ترجم عن ثقافات الفرس، والهند، واليونان. ولم تكن ثقافة العرب ودينها، عنه ببعيدان.  لن أدافع عنه…  فلهذا الرجل لسانه، الذي نافح به عن العربية، في وجه الشعوبية، دفاعاً، لن تجد من أهل العربية، أنفسهم، من يدافع مثله. وهو الذي قال:" كلام العرب بديهة وارتجال، وكأنه إلهام".  لن أدافع عنه…  وهل هو بحاجةٍ إلى من يدافع عنه؟ وقد كان معتزلي الف...