التخطي إلى المحتوى الرئيسي

داهمنا الوقت ...




بقلم/ الدكتور عبدالكريم اعقيلان

إنّه زمنٌ محدود...
زمنٌ تفوقُ حدودُه الآفاقَ بحركةٍ دائبة، تتداخل فيها الأماكنُ والأحداثُ بصورةٍ دراميّة بَطُلَها ذلك الإنسانُ الذي يحاول أن يُمسكَ بزمامه، لكنّه سُرعانَ ما يُدركُ عدم جدوى إيقافه؛ لأنّ إيقافه يعني خروجه من هذه الحياة...
يقود هذا الإدراكُ الإنسانَ إلى مسابقة الزّمن ومواكبة التّغيّرات، ليوجد لنفسه مكانًا مستقرًّا في المضمون لا في الشّكل؛ ذلك أنّ الاستقرار الشّكليّ لا يعني التّقدّم أو التّطوّر، بل هو الوهم الذي يَغُرُّ الإنسانَ ويبثُّ فيه روح التّراخي، في حين أنّ الاستقرار في المضمون هو الاستقرار الحقيقيّ لما يشتمل عليه من إنتاجٍ وثمارٍ تُلمَسُ آثارها فائدةً تعود بالنّفع على واقعه ومستقبله...
إنّ بروز الشّيب في الرأس يمكن إخفاؤه بأروع الصّبغات التي تُعيد للشّعر رونقه... وتجاعيد الوجه يمكن إزالتها بأحدث عمليّات التّجميل التي تُعيد له نضارته... ولكنّ هذه العلاجات لا تُعيدُ للإنسان أيّامَه التي تمضي... وعمرَه الذي ينقضي... ولا تستطيع تغيير تاريخ ميلاده، فضلاً عن إطالة عمره المسطّر في الكتاب المكنون...
إنّه غنيمةٌ...
الشّباب يتحوّل هرمًا... والغنى يستحيلُ فقرًا... والصّحّة تنقلبُ سقمًا... والفراغُ يمتلئُ شُغلاً... والحياة تنتهي موتًا... ويجري كلُّ نقيضٍ من هذه النقائض بوقت يلائم ظروفها ومتطلباتٍ تستدعي تحقيق أكبرِ قدرٍ من الإنجاز الذي يمكنُ تحقيقُه...
تزدحم الأعمال في مخيّلة الإنسان، وتدخل في تنافسٍ مع رغباته... ويأتي تقدير الأولويّات ضمّن سلّم من الأحكام التي تُعِيرُ الوقت أهمّيّةً لتحديد أيّ الأمرين أولى بالشّروع فيه، وهو تحدٍّ يدفع إلى محاولة الجمع بين الأعمال والرّغبات لتحقيق الانسجام في الأداء، والتّوازن أثناء مرور الوقت، الأمر الذي يحول دون السّقوط المفضي إلى ضعف التّسارع مع الزمن الذي يجري دون توقّف...
زمنٌ عصيٌّ على تقدير ثمنه، على الرّغم من أنّه بين يدي الجميع، والكلّ يسبحُ في حركته... إلاّ أنّه ليس بسلعةٍ تُبَاع وتُشْتَرَى...فلا تكادُ تجدُ من يملك أن يبيعك دقيقةً أو ساعةً أو يومًا... وتظهرُ قيمتُه بمقدار الإحساس به وإدراك أهمّيّته... فتبرزُ هذه القيمة وتلك الأهمّيّة من خلال تقدير العواقب، وترقّب موسم الحصاد...
إنّه حقيقةٌ واحدةٌ...
في أوجِ اهتمام الإنسان بمواكبة الزّمن، قد يغفلُ عن مراقبة خطواته، وتقدير صوابها من خطئها، فيكونُ جلُّ اهتمامه أن يبقى مسايرًا للوقت... دون أن يُدرك أهمّيّة كلّ خطوةٍ في تحقيق التّزامن الصّحيح معه... فليس من مجاراة الزّمن أن يُثبتَ الإنسانُ أنّه لا يزال على قيد الحياة...
قد يفكّرُ الإنسان بمفهوم النّجاح بوصفه تعبيرًا عن صحّة الخطوات التي يمشيها، ولكنّ تحديد مفهوم النّجاح في ذاته ينبغي أن يكونَ صحيحًا أيضًا... ونحن هنا أمام موقفٍ تتداخلُ فيه مرجعيَّاتٌ متعدّدة التّصوّرات للخطأ والصّواب...
إنّ وصول الإنسان لإدراك حقيقة الأشياء ينبغي أن لا يستند إلى الأفكار النّاشئة من الوهم والأساطير؛ ذلك أنّ وسائل الإدراك المتاحة له تؤهّله أن يعاين الموجودات بتجرّدٍ، إلا أنّ إدراك الغيبيّات يستدعي أن يكون إحساسُه بالزّمن صادقًا... ويبقى الزّمن محتفظًا بحقيقةٍ واحدةٍ لكل شيءٍ وإن تعدّدت طرق الوصول إليها...
داهمنا الوقت ...







تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

القبائل الّتي يُحتجّ بلغتها في أصول العربيّة

بقلم: الدكتور عبدالكريم اعقيلان عناصر الموضوع: - سبب تحديد القبائل الّتي يُحتجّ بلغاتها. - تحديد القبائل الّتي يُحتجّ بلغاتها. - تداخل عنصريّ الزّمان والمكان في الاحتجاج اللّغويّ. - تحديد القبائل الّتي لم يُحتجّ بلغاتها. المراجع: - الفارابي : الألفاظ والحروف - السيوطي : الاقتراح - السيوطيّ: المزهر - ابن جنّي: الخصائص - محمّد عبده فلفل: اللّغة الشّعريّة عند النّحاة - مصطفى الرّافعيّ: تاريخ آداب العرب ***** أولاً: سبب تحديد القبائل الّتي يُحتجّ بلغاتها: تدخل قضيّة القبائل الّتي يُحتجّ بلغاتها في أصول اللّغة من كونها المستند الّذي يعتمده اللّغويّون في تقعيد اللّغة، أو وضع القاعدة اللّغويّة، والكلام المُتداول هو المسرح الّذي استمدّ منه اللّغويّون شواهدهم اللّغويّة، وهو مساحةٌ كبيرة من شرائح المجتمع، الّذي تدور اللّغة في فلكه، وتنشأ في أحضانه. وقد كان السّبب الرّئيس لتحديد هذه القبائل مرتبطاً ارتباطاً وثيقاً بخدمة القرآن الكريم، وهو الكتاب المبين الّذي نزل بلسان العرب ولغتهم، وقد ترتّب على هذا الأمر أن يحرص اللّغويّون على اختيار المستوى ال...

نبذة مختصرة في علم البيان

بقلم  الدّكتور/ ضياء الدّين الحموز جاء الدرس البلاغيّ عند القدماء مدفوعاً برغبة معرفة دقائق اللغة العربيّة، وأسرارها، والكشف عن وجوه الإعجاز في نظم القرآن الكريم وصولاً إلى قوانين تمكنهم من الوقوف على مقاصد الشارع الحكيم، وتمكنهم من محاكاة أسلوب النظم القرآني المعجز، وقد انقسم الدرس البلاغيّ عندهم إلى ثلاثة أقسامٍ أساسيّة، هي: البيان، والمعاني، والبديع، وحديثنا في هذه الورقات مختصّ بالبيان.  يبحث علم البيان في وسائل التصوير الفنّي، وأهمّها : التشبيه، والكناية والاستعارة، ويقيم هذا العلم حتى وقت متأخّرٍ من الدراسات البلاغيّة القديمة فواصل بين هذه الأنواع الثّلاثة، وقد باتت هذه الأصول الثّلاثة- إن صحّ التعبير- تدخل في إطار ما يعرف الآن بـ (الصّورة الشّعريّة) أو (اللّوحة الفنّيّة).  ويمكن الوصول إلى البيان العربيّ من خلال مؤلفات الأقدمين الذين أثروا المكتبة العربيّة بذخائر الأدب والثقافة والعلوم اللّغويّة، ومن أشهر المؤلفات البلاغية التي عنيت بالبيان العربي قديماً: - البيان والتبيين : الجاحظ 255هـ. - البديع: عبدالله بن المعتزّ 296هـ.  - نقد الشّعر: قدامة بن جعفر 337هـ...

مقدّمة الجاحظ في كتاب الحيوان- عرض وتقديم

بسم الله الرّحمن الرّحيم  بقلم الدكتور عبدالكريم عبدالقادر اعقيلان   عمرو بن بحر الجاحظ، ومن لا يعرف أبا عثمان؟ هل يعيبه أنه نشأ يبيع الخبز، والسمك بنهر سيحان؟ أم لأنه أعجمي الأصل وينافح عن العربية؟ مالذي عابوه على هذا الرجل، حتى يقفوا أمامه يتعرضون لما يكتب، ويؤلف، وينشر؟  لن أدافع عنه…  بل في سيرة حياة هذا الرجل ما يقطع قول كل حكيم. وماذا أقول فيمن أخذ عن علماء اللغة، أصولها، فبرع فيها، حتى إنك لا تكاد تجد مؤلفاً في اللغة، إلا وفيه رأيٌ للجاحظ، أو شاهد؟. وهو الذي لم يكن يقع في يديه كتابٌ، إلا ويقرأه من أوله إلى آخره. بل لقد كان يكتري دكاكين الوراقين، يبيت فيها للقراءة، والنظر. وما هذه الكتب التي يقرأها؟ فيها من كل ما ترجم عن ثقافات الفرس، والهند، واليونان. ولم تكن ثقافة العرب ودينها، عنه ببعيدان.  لن أدافع عنه…  فلهذا الرجل لسانه، الذي نافح به عن العربية، في وجه الشعوبية، دفاعاً، لن تجد من أهل العربية، أنفسهم، من يدافع مثله. وهو الذي قال:" كلام العرب بديهة وارتجال، وكأنه إلهام".  لن أدافع عنه…  وهل هو بحاجةٍ إلى من يدافع عنه؟ وقد كان معتزلي الف...