مدونة عُكاظ مدونة عُكاظ
recent

أحدث المشاركات

recent
recent
جاري التحميل ...
recent

اللّغة العربيّة وتحدّي الازدواجيّة اللّغويّة والثّقافية


 

اللّغة العربيّة وتحدّي الازدواجيّة اللّغويّة والثّقافية

 

بقلم/ الدكتور عبدالكريم عبدالقادر اعقيلان 

 

ما أن تُذكر اللّغة العربيّة إلاّ ويُذكرُ ذلك التّاريخ العريق الذي سادت فيه ميادين الأدب والثّقافة، وتُذكرُ حدود الجغرافيا التي سادت عليها هذه اللّغة في مشارق الأرض ومغاربها، كما يُذكرُ ذلك الإنسان العربيّ الذي ارتفعَ ذكره وعلا مقامه فصار مثالاً يُحتذى به في الزّي واللّسان.

ولكنّ هذه الحقيقة التّاريخيّة، تصطدم بواقعٍ يوحي بالبون الشّاسع بين ما كانت عليه العربيّة في الحقب التّاريخيّة السّالفة، وما آلت إليه في عصرنا الحاضر، ولا يعني ذلك أبدًا تحوّل العربيّة عن الرّيادة العلميّة أو الثّقافيّة، بل هو نتاج عوامل أثّرت في كينونة المجتمعات العربيّة التي اضطربت فيها لغتها العربيّة وماجت مع تلاطم أمواج التّداخل الثّقافيّ الذي تسرّب إلى فكر وعقل الإنسان العربيّ.

ومن أبرز ما يواجه اللغة العربيّة من تحدّياتٍ في الواقع المعاصَر، هو تلك الازدواجيّة التي تفرز مستويين من اللّغة العربيّة، أحدهما: المستوى الفصيح أو الكلاسيكي، الذي يستند إلى مستوياتٍ عليا من الأنظمة اللّغويّة التي تصف قواعد بناء الألفاظ وتراكيب الجمل وخصائص الأصوات وارتقاء مستوى دلالات التّعبير فيها.

أمّا المستوى الثّاني: فهو مستوى اللّغة المحكيّة، أو المتداولة بين عامّة أفراد المجتمع في الحياة اليوميّة، وهو مستوى يخضع لعوامل بيئيّة وجغرافيّة تؤثر في تنوّع هذا المستوى على الصّعيد الاجتماعيّ.

إنّ مثل هذه الازدواجيّة تشكّل تحدّيًا أمام نمو اللغة العربيّة الفصيحة أو الكلاسيكيّة وتصدّرها؛ ذلك أنّ الأجيال تنشأ في ظلّ سيطرة اللّغة المحكيّة على واقع الاستعمال مما يجعل من المستوى الفصيح غايةً محفوفةً بالمصاعب أمام رواد تعلّمها، فهم ينتقلون من مستوى لغوي وفكري معيّن إلى تعلّم مستوى لغويّ وفكري أرقى، وكأنّهم يتعلّمون لغةً غير لغتهم.

ولا نتحدّث هنا عن تعدّد اللّهجات، فهو واقعٌ حاضرٌ في كلّ لغةٍ عبر مسيرتها التّاريخيّة، ولكننا نتحدّث عن اللّغة المحكيّة التي انفصلت عن تاريخ العربيّة وبعدت عليها الشّقّة في فهم تراث العرب الأدبيّ والدّينيّ والبلاغيّ، فأصبحت الأجيال تحتاج إلى تفسيرٍ مفردات ذلك التّراث وتفسير مضمونه، وهذا بدوره أفرز أجيالاً لا تكاد تولي تراثها اللّغويّ أيّ اهتمام، وكأنّها تنظر إليه تراثًا لا يصلح لهذا الزّمان.

إذن! فنحن أمام ازدواجيّة لغويّة متأثرةٍ بما غزاها من مؤثراتٍ أجنبيّة باعدت بين العربيّة الأصيلة وبين العربيّة الشّكليّة – إن صحّ التّعبير – فتشكلّت ثقافة عربيّة مستمدّة من ثقافاتٍ أخرى، كان من آثارها ضعف التّعبير اللّغويّ باللّسان العربيّ، وضعف مستوى فهم التّراث العربيّ، والجهل بكثيرٍ من أصول ثقافة العرب ودلالات ألفاظها وتراكيبها ومحاكاة بلاغتها الأسلوبيّة، فنشأت لدينا أجيالٌ لا تعرف من العربيّة إلا اسمها وحروفها، بينما تنظرُ إلى تراثها الأصيل وكأنّه لغةً أخرى غير لغتها، وثقافةٌ أخرى غير ثقافتها.

إن وصول المجتمعات العربيّة إلى هذا المستوى من التّباعد الفكري والثّقافيّ عن اللّغة العربيّة الفصيحة قد حصل نتيجة عوامل متعدّدة، لعلّ من أبرزها:

  • العامل السّياسيّ الذي يتمثّل بالغزو الفكريّ والثّقافيّ الذي تعرّضت له البلاد العربيّة على إثر الاستعمار الغربيّ.
  • ضعف اهتمام مخرجات التّعليم الأساسيّ والثّانويّ بمستوى إتقان الأجيال للعربيّة لغةً وثقافة.
  • التجاهل الأسريّ لأهمّيّة اللّغة العربيّة، وصرف الاهتمام إلى اللّغات الأجنبيّة وعدّها لغة العصر والمستقبل.

 

ويُمكن القول بأنّ هذه العناصر الثلاثة، هي أبرز المؤثّرات في تشكّل العقل اللّغويّ للإنسان، ولذلك؛ فإنّ إعادة صياغتها وتوجيهها لصالح اللّغة العربيّة يُمكن أن يحقق نتائج إيجابيّة تُعيد للعربيّة مجدها، وتفرضها بمستواها الفصيح واقعًا اجتماعيًّا يرتبط بتراثنا العربيّ العريق.

وحتى لا ننقل صورة سوداويّةً عن اللّغة العربيّة في الوقت الحاضر، جديرٌ أن يُشار إلى أنّ مجتمعنا العربيّ واسع الأطياف لا يخلو من نماذج مشرقةٍ من المنجزات على صعيد الاهتمام باللّغة العربيّة، فمن الجانب السّياسيّ اعتمدت اللّغة العربيّة في هيئة الأمم المتّحدة لغة رسميّة عالميّة، إلى جانب وجود تشريعاتٍ قانونيّةٍ تفرض حضور اللّغة العربيّة بمستواها الفصيح قواعديًّا في المعاملات الرّسميّة.

ومن جانبٍ آخر، هناك كثيرٌ من الفعاليات الأدبيّة التي تهتمُّ بعرض محتواها بمستوى لغويٍّ عربيّ كلاسيكيّ، وفوق ذلك برزت نماذج من الحقل العلميّ المتمثل بتدريس العلوم باللّغة العربيّة فيدرس الطّب وتدرس الهندسة وغيرهما من التّخصّصات باللّغة العربيّة، تحت عنوان (تعريب التّعليم)، وإن كانت مثل هذه التّجارب ليست معمّمة إلاّ أنّها توحيّ بنجاح وإمكانيّة تعميم هذه الفكرة في جميع البلاد العربيّة.

وعلى الرّغم من ذلك، لا زالت الازدواجيّة اللّغويّة الثّقافيّة حاضرةً لدى كثيرٍ من المتحدّثين بالعربيّة، و ينبغي أن تُصرف الجهود لإعادة توجيه استخدام العربيّة وفق النّمط الذي يُعيد الصّلة بين الحاضر والماضي العريق، لتصبح ثقافة الإنسان العربيّ قادرة على منحه القدرة على قراءة التّراث وربط اللّغة بسياقها التّاريخيّ ومن أبرز ما يمكن بذله من جهود لتحقيق هذه الغاية ما يأتي:

  • تفعيل دور مجامع اللّغة العربيّة من خلال تطبيق القرارات التي تصدر عنها في كثير من مسائل توظيف استعمال اللّغة العربيّة.
  • إعادة إحياء الأساليب اللّغويّة الفصيحة وربطها بسياقها الثّقافي وتطبيقها على الواقع.
  • العناية باختيار النّصوص الأدبيّة التي تدرّس في التّعليم الأساسيّ والثّانويّ؛ لرفع كفاءة الأداء لدى المتعلّمين في مراحل التّعليم المبكّرة لما في ذلك من أهميّة في زيادة تمكّن النشء من اللّغة العربيّة.
  • رفع مستوى التّوعية الأسريّة وإدراك أهمّيّة دورها في زيادة الاهتمام باللّغة العربيّة.
  • تشجيع قراءة الكتب التّراثيّة وإعداد المنافسات المحلّيّة والإقليميّة والعالميّة.
  • دعم وتشجيع البحث العلميّ في قضايا اللّغة العربية.

 

وقبل هذا وبعده بتعلّم وتعليم وتفسير القرآن الكريم، الذي يُمثّل أرقى مستويات الفصاحة والبلاغة العربيّة، وهو الكتاب الذي رُفع به ذكر العرب، وتحقق لهم ذلك التّاريخ العريق، وحُفظت به اللّغة من الاندثار.

التعليقات



يمكنك مراسلتنا بالضغط على شعار المايكروفون أو من أيقونة راسلنا في أعلى الصفحة ...

اتصل بنا

الزّوار

جميع الحقوق محفوظة

مدونة عُكاظ

2023