بقلم الدكتور/ عبد الكريم اعقيلان
أوّلاً: مع المصطلح – تعريف عام
المعنى اللّغويّ:
القراءات جمع قراءة، وهي مصدر من الفعل الثّلاثيّ (قرأ)، والقراءة ضمّ الحروف والكلمات بعضها إلى بعض في النّطق ([1]).
المعنى الاصطلاحيّ:
هي مذهبٌ يذهبُ إليه إمامٌ من أئمّة القرّاء مخالفٌ به غيره في النّطق بالقرآن الكريم، مع اتّفاق الرّوايات والطّرق عنه، سواء أكانت هذه المخالفة في نطق الحروف أم في نطق هيئاتها ([2]).
وقد ظهر من هذا التّعريف أقسامٌ لإسناد القرآن الكريم وهي أربعة بيّنها السّيوطيّ كما يأتي ([3]):
1. القراءة: تُعتمد كقراءة إذا اتّفقت عليها الرّوايات والطّرق واختلف أحدُ الأئمّة القرّاء.
2. الرّواية: إذا كان الخلاف للرّاوي
3. الطّريق: إذا كان الخلاف ممّا دون الإمام القارئ أو الرّاوي
4. الوجه: ما كان التّخيير حاصلاً للقارء فيه.
ثانيًا: نشأة علم القراءات
تُشير كتبُ علوم القرآن وكتبُ التّراجم والسّير إلى أنّ نشأة علم القراءات كما نلاحظه الآن، يعودُ إلى عهد عثمان بن عفّان – رضي الله عنه – وليس معنى ذلك أنّ القراءات المتعددة لم تكن موجودة، غير أنّ اعتماد هذه القراءات المشهورة كان من أثر صنيع عثمان بن عفّان – رضي الله عنه، ومن الشّواهد على هذا المذهب:
- يقول أبو بكر الباقلاّني: "عثمان لم يقصد قصد أبي بكر في جمع نفس القرآن بين لوحين، وإنما قصد جمعهم على القراءات الثابتة المعروضة على الرسول، وإلغاء ما لم يجرِ مجرى ذلك" ([4]).
- يقول ابن السّلاّر الشّافعي: "قال ابن مجاهد: وكان نافع عالما بوجوه القراءات، متبعا لآثار الأئمة الماضين"([5]).
وقد كان في زمن الصّحابة – رضوان الله عليهم – من اشتهر بالقراءة، وكانوا قد تلقّوا القرآن مشافهةً من النّبيّ – صلّى الله عليه وسلّم – ومنهم: أبيّ بن كعب، وعبد الله بن مسعود، وزيد بن ثابت، وأبو موسى الأشعريّ، والخلفاء الرّاشدين الأربعة – رضي الله عنهم – أجمعين.
وعندما كان الأخذ عن نبيّنا محمد – صلى الله عليه وسلم – مشافهةً لقراءة القرآن، كان الاختلافُ بين الصّحابة أمرًا حتميًّا، "فمنهم من أخذ القرآن عنه بحرفٍ واحدٍ، ومنهم من أخذه عنه بحرفين، ومنهم من زاد، ثمّ تفرّقوا في البلاد على هذه الحال، فاختلف، بسبب ذلك، أخْذُ التّابعين عنهم، وأخْذ التّابعين عن التّابعين، وهلمّ جرًّا، حتى وصل الأمرُ على هذا النّحو إلى الأئمّة القرّاء المشهورين، الذين تخصّصوا وانقطعوا للقراءات يضبطونها ويُعنون بها وينشرونها"([6]).
ويُضاف إلى ما سبق، أنّ المشافهة قد صحبها "تسجيلٌ كتابيٌّ فرديٌّ لكلّ حرفٍ يقرأ به الصّحابيّ أو المتلقّي عنه على حدةٍ، ولهذا أثره في إحداث الشّقاق بين أتباع كلّ حرفٍ وحرفٍ، وجعل كلاًّ منهم يُخطّئ الآخر"([7]).
وقد انبرى لحلّ هذه الأزمة، التي ثارت ثائرتها بين المسلمين، حتّى ذهب بعضهم إلى تكفير الآخرين المخالفين، انبرى لها عثمان بن عفّان – رضي الله عنه – وهو على سدّة الخلافة فانتزع الفتنة من جذورها بردّه المسلمين جميعًا إلى اللّفظ المأذون في كتابته، وهو نصّ المصحف المكتوب في عهد النّبيّ – صلى الله عليه وسلّم – وألزمهم أن يتقيّدوا بما يسمحُ به رسمُه من أوجه القراءات"([8]).
وأمّا عمل عثمان بن عفّان – رضي الله عنه – فكان القاصم لجذور الفتنة في هذا الباب، وفاتحةً لعملٍ تأليفيّ تدوينيّ واسع، نجدُ آثاره بين أيدينا في المؤلّفات الكثيرة، ومن هذه المؤلّفات ([9]):
- أوّل من ألّف في القراءات هارون بن موسى (توفّي قبل 200هـ)، حيث سمع بالبصرة وجوه القراءات وتتبّع الشّاذّ منها، فبحث عن إسناده.
- أحمد بن جبير الكوفيّ (258هـ) جمع كتابًا في القراءات الخمس التي تُمثّل الأمصار الخمسة: (مكّة – المدينة – البصرة – الكوفة – الشّام).
- أبو جعفر محمد بن جرير الطّبريّ (310هـ)، الجامع في القراءات.
- الحافظ أبو عمر عثمان بن سعيد الدّاني (444هـ)، جامع البيان في السّبع.
- أبو محمّد عبد الله بن عليّ (541هـ)، الكفاية في القراءات السّت.
- أحمد بن محمد البنّا الدّمياطيّ (1117هـ)، إتحاف فضلاء البشر بالقراءات الأربعة عشر.
وقد ألّف بعض العلماء في الشّاذّ من القراءات وحدها، وكانت البداية في القرن الثّالث الهجريّ، ومنها:
- كتاب الشّواذ، ابن مجاهد (324هـ).
- البديع في شواذّ القراءات، ابن خالويه (370هـ).
- المحتسب في تبيين وجوه شواذّ القراءات، ابن جنّيّ (392هـ).
وهكذا، يظهرُ بأنّ القراءات قد نحت منحًا كبيرًا في مجال التأليف، حتّى غدت علمًا مستقلاًّ له شيوخه وتلاميذه ومناطقه، وتثبّتت رؤية الهلال في جميع القراءات حتى لم يعد هناك خلافٌ بين المسلمين كالذي كان في بداية عهد عثمان – رضي الله عنه.
ثالثًا: الاختلاف في القراءات
إنّ اتّساع رقعة الدّولة الإسلاميّة وتنوّع واختلاف لهجات العرب التي كانت معروفة وقت نزول القرآن الكريم، وبقاء المصحف الإمام – مصحف عثمان بن عفّان، رضي الله عنه، - غير منقوط ولا مشكولٍ مدّةً من الزمن، إضافةً إلى صعوبة وقلّة وسائل التّواصل بين أبناء الأمّة الإسلاميّة لبعد مسافاتهم، كلّ هذا، يُعدّ من أسباب تعدّد القراءات وتعدّد طرقها ([10]).
وهذه القراءات غير محصورةٍ بعددٍ معيّن، ولا يعني سماعنا عن القراءات الأربع عشرة، والعشرة، وغيرها، أنها محدودةٌ بهذا الرّقم، بل الأمرُ غير ذلك، فهي أكثر من ذلك بكثير ([11])، وقد اشتهر ودرج أنّ القراءات المعتمدة تمامًا بين القرّاء وبين العامّة، هي تلك القراءات السّبع المتّفق عليها، وإن كان ثمّة اختلافٌ بين ثلاثة منهم، ولا ينفي هذا عنها وجود الشّواذّ، ولهذا؛ اقتصر في القراءات على السّبعة، للأسباب الآتية ([12]):
1. الاقتصار على ما يوافق خط المصحف، ويسهل حفظه وتنضبط به القراءة.
2. الاتفاق على ما يشتهر بصفات الثقة والأمانة وملازمة القراءة للأخذ عنه.
3. الاقتصار على إمام واحد من كلّ مصرٍ من الأمصار التي أرسلت إليها المصاحف.
فوائد الاختلاف في القراءات
إنّ الاختلاف رحمة، هذه مقولة مشهورة درجت على الألسنة، إلاّ أنّ الاختلاف بمعناه اللّغويّ ليس رحمةً أبدًا، فإنّ جمع الكلمة ووحدة الصّفّ هو الخير للأمّة، غير أنّ المقصود هنا، هو الاختلاف الذي يدفع الأئمّة إلى البحث والتّحرّيّ وإظهار الحجّة والسّعي الصّادق نحو الحقيقة لا نحو تصديق الرّأي الشّخصيّ ونصرة المذهب أو الشّيخ أو طائفته.
وقد كان حال الأئمّة الربعة في مذاهبهم الفقهيّة هو البحث عن الحقيقة أيًّا كان توجّهها ومصدرها، وكما قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم – " الْكَلِمَةُ الْحِكْمَةُ ضَالَّةُ الْمُؤْمِنِ، حَيْثُمَا وَجَدَهَا فَهُوَ أَحَقُّ بِهَا"([13])، إلاّ أنّه يمكن أن يستشفّ من اختلاف القراءات القرآنيّة بعض الفوائد، ومن ذلك ([14]):
1. التّيسير على الأمّة إذ يشقّ عليها أن نقرأ القرآن على وجهٍ واحد.
2. الدّلالة على صيانة القرآن الكريم وحفظه من التّحريف والتّبديل مع كثرة أوجه قراءته.
3. اختلاف الأحكام الفقهيّة باختلاف القراءات، مثل الاختلاف في قراءة (وأرجلكم إلى الكعبين)، فقراءتها بكسر (اللاّم) عطفٌ على الممسوحات قبلها فيكون فرض الرجلين في الوضوء هو المسح، وقراءتها بفتح (اللاّم) عطفًا على المغسولات يجعل فرض الرجلين في الوضوء هو الغسل لا المسح.
4. بيان ما يحتمل أن يكون مجملاً في قراءة أخرى، كقوله تعالى: (والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما) قرئ: (أيمانهما) بدلاً من أيديهما، وتبيّن بهذه القراءة أن التي تقطع أوّلاً هي اليد اليمنى.
5. بيان إعجاز القرآن الكريم من خلال إيجازه، إذ يمكن أن ينطق بالكلمات القرآنيّة على وجوهٍ مختلفةٍ دون انحرافٍ عن المعنى، كما يمكن أن تتعدّد المعاني والأحكام برسمٍ واحدٍ، وكلّ القراءات مثالٌ لهذه الفائدة.
6. بيان لفظٍ مبهمٍ، كما في قوله تعالى: (العهن المنفوش)، إذ قرئ: (الصوف المنفوش).
الأحرف السّبعة والقراءات السّبع
روى البخاري في صحيحه أنّ عمر بن الخطّاب – رضي الله عنه – قال: " سَمِعْتُ هِشامَ بنَ حَكِيمٍ يَقْرَأ سُورَةَ الفُرْقانِ فِي حَياةِ رسولِ الله فاسْتَمْعْتُ لِقِرَاءَتِهِ فإذَا هُوَ يَقْرؤوها عَلى حُرُوفٍ كَثِيرَةٍ، لمْ يُقْرِئْنِيها رسولُ الله كَذَلِكَ فَكِدْتُ أُساورُهُ فِي الصلاةِ، فانْتَظَرْتُهُ حتَّى سَلّمَ ثُمَّ لَبَّبْتُهُ بِرَدائِهِ أوْ بِرِدَائِي فَقُلْتُ: مَنْ أقْرأكَ هَذِهِ السُّورَةَ؟ قَالَ: أقْرَأنِيها رسولُ الله قُلْتُ لَهُ كَذْبتَ فَوَالله إنَّ رسولَ الله أقْرَأني هاذِهِ السُّورَةَ الَّتي سَمِعْتُكَ تَقْرَؤوها، فانْطلَقْتُ أقُودُهُ إِلَى رسولِ الله، فَقلْتُ يَا رسولَ الله إنّي سَمِعْتُ هاذَا يَقْرَأُ بِسُورَةِ الفُرْقانِ عَلى حُرُوفٍ لَمْ تُقْرِئْنيها، وأنْتَ أقْرَأْتَني سُورَةَ الفُرْقانِ. فَقَالَ رسولُ الله أرْسِلُهُ يَا عُمَرُ اقْرَأْ يَا هِشامُ فَقَرأ عَلَيْه القِراءَةَ الّتِي سَمِعْتُهُ يَقْرَأُها قَالَ رسولُ الله هكَذَا أُنْزِلَتْ ثُمَّ قَالَ رسولُ الله اقْرَأْ يَا عُمَرُ فَقَرَأْتُ فَقَالَ: هكَذا أُنْزِلَتْ، ثُمَّ قَالَ: إنَّ هذا القُرْآنَ أُنْزِلَ عَلى سَبْعَةِ أحْرُفٍ فاقْرَؤُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ"([15]).
ومن خلال هذا الحديث يظهرُ أنّ المراد من الأحرف السّبعة "الأوجه السّبعة التي وسّع بها على الأمّة، فبأيّ وجهٍ قرأ القارئ منها أصاب"([16])، وقد لخّص صبحي الصّالح التّغاير في اللفظ القرآني الواحد وتنوّع قراءاته في الوجوه الآتية ([17]):
الأوّل: الاختلاف في وجوه الإعراب، سواءً تغيّر المعنى أم لم يتغيّر، فممّا تغيّر فيه المعنى قوله تعالى: (فتلقّى آدم من ربّه كلماتٍ)، فقد قرئ: (فتلقّى آدم من ربّه كلماتٌ)، ومّما لم يتغيّر فيه المعنى قول تعالى: (ولا يُضارَّ كاتبٌ ولا شهيدٌ)، فقد قرئ: (ولا يُضارُّ).
الثّاني: الاختلاف في الحروف، وذلك إمّا بتغيير المعنى دون الصّورة، وهو ما يُعبّر عنه أحيانًا بالاختلاف في النّقط، مثل: (يعملون، وتعلمون)، وإمّا بتغيير الصّورة دون المعنى، مثل: (الصّراط، والسّراط).
الثّالث: اختلاف الأسماء في إفرادها وتثنيتها وجمعها، أو تذكيرها وتأنيثها، مثل: (والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون)، فقد قرئ: (لأمانتهم) بالإفراد، ومن الواضح أنّها رسمت في المصاحف العثمانيّة (لأمنتهم) كخلوها من الألف السّاكنة ومؤدّى الوجهين واحدٌ؛ لأنّ في الإفراد قصدًا للجنس، وفي الجنس معنى الكثرة، ولأنّ في الجمع استغراقًا للأفراد، وفي الاستغراق معنى الجنسيّة.
الرّابع: الاختلاف بإبدال كلمة بكلمة يغلب أن تكون إحداهما مرادفة للأخرى، وإنما تتفاوتان بجريان اللسان بإحداهما عند قبيلة دون أخرى، كقوله تعالى: (كالعهن المنفوش)، (كالصّوف المنفوش).
الخامس: الاختلاف بالتّقديم والتّأخير فيما يعرف وجه تقديمه أو تأخيره في لسان العرب العامّ، أو في نسق التّعبير الخاصّ، كقوله تعالى في شأن المؤمنين الذي اشترى منهم أنفسهم وأموالهم بأنّ لهم الجنّة يقاتلون في سبيل الله (فيقتُلون ويُقتَلون)، فقد قرئ: (فيُقتَلون ويقتُلون)، ففي الحرف الأوّل يُسرع المؤمنون إلى قتل الأعداء، وفي الحرف الثّاني يتلهّفون إلى ساحة المعركة تلهّفًا لعلّ الله يتّخذُهم شهداء.
السّادس: الاختلاف بشيءٍ يسيرٍ من الزّيادة والنّقصان جريًا على عادة العرب في حذف أدوات الجرّ والعطف تارةً وإثباتها تارةً أخرى.
السّابع: اختلاف اللّهجات في الفتح والإمالة والتّرقيق والتّفخيم والهمز والتّسهيل، وكسر حرف المضارعة وقلب بعض الحروف وإشباع (ميم) جمع الذّكور وإشمام بعض الحركات، وأمثلة ذلك كثيرة في القرآن الكريم.
ومن جانبٍ آخر، فإنّ الأحرف السّبعة ليست هي المقصودة في القراءات؛ لأنّ القراءات – كما سيمرّ – ليست سبع قراءات، فهناك من يقول بأنّها عشر، وهناك من يقول بأنّها أربع عشرة، وحتمًا ليست هي المقصودة بهذه الأحرف السّبعة، وإن كان الجامعُ بينهما هو التّيسير والتّوسّع في القراءة.
رابعًا: ضوابط القراءات وشروطها
بعد أن جمع عثمان بن عفّان – رضي الله عنه – الأمّة على مصحفٍ واحدٍ، قد أرسل إلى الأمصار قارئًا مع كلّ مصحفٍ، يعلّم النّاس قراءة القرآن، حتّى أصبح لكلّ قُطرٍ قارئه، وطريقته في القراءة، "وقد اشتهر من بينهم بالإقراء سبعة، هم: عثمان بن عفّان، وعليّ بن أبي طالب، وأبيّ بن كعب، وزيد بن ثابت، وعبدالله بن مسعود، وأبو الدّرداء، وأبو موسى الأشعريّ، واشتهر في كلّ بلدٍ إسلاميّ قراءة الصّحابيّ الذي علّمهم القرآن، فأهل الشّام كانوا يقرأون بقراءة أبيّ بن كعب، وأهل الكوفة بقراءة عبدالله بن مسعود، وأهل البصرة بقراءة أبي موسى الأشعريّ، وهكذا"([18]).
وعلى هذا، كان ثمّة ضوابط، تُقاس بها صحّة القراءة من عدمها، وقد نُظمت هذه الضّوابط كما يأتي ([19]):
وكلّ ما وافق وجه النّحو
وكان للرّسم احتمالاً يحوي
وصحّ إسنادًا هو القرآن
فهذه الثّلاثة الأركانُ
وحيثما يختلّ ركنٌ أثبتِ
شذوذه لو أنّه في السّبعةِ
وهذه الضّوابط هي المشهورة المعتمدة من بين ضوابط أخرى تعتمد على درجة الإسناد، من ناحية، ومن ناحيةٍ أخرى التّركيب اللّغويّ والنّحويّ، أمّا الإسناد، فما كان متواتر الإسناد وُصف بالصّحة، وما كان رواية آحاد وصف بالشّذوذ، وما خرج عن هذا وذاك (تُرك)، أمّا اللّغة فما صحّت لغته وسلمت تراكيبُه قبلوه، وما خالف لغة العرب ردّوه وتركوه ([20])، وهذا النّص الضّابط قد جرى على يد (ابن الجزريّ – 833هـ)، ومنه استخلصت شروط القراءة الصّحيحة، فكانت "كلّ قراءةٍ وافقت أحد المصاحف العثمانيّة ولو تقديرًا، ووافقت العربيّة ولو بوجه، وصحّ إسنادها"([21]).
ويُلاحظ على هذه الشّروط عدّة أمور ([22]):
1. لم يشترط التّواتر؛ لأنّ التّواتر واردٌ في تعريف القرآن، فلا حاجة لإيراده في الضّابط، ولو شُرط لصعب التّمييز، والشّروط المذكورة مساوية للمتواتر.
2. كثيرٌ من القراءات توافق رسم المصحف ولا يُقرأ بها.
3. لو وافقت القراءة شرطين دون الثّالث لم تقبل.
خامسًا: أنواع القراءات من حيث الإسناد
اعتمد علماء القراءات منهج علماء الحديث في إثبات صحّة إسناد الروايات القرآنيّة، وذلك؛ لأنّ النّقل هو ما أوصل إلينا القرآن كما أوصل إلينا الحديث، وبذلك، صُنّفت القراءات من حيث أسانيدها إلى ما يأتي ([23]):
1. المتواتر: وهو ما نقله جمعٌ لا يمكن تواطؤهم على الكذب عن مثلهم، من أوّل السّند إلى منتهاه، وهذا هو حال أغلب القراءات السّبع.
2. المشهور: وهو ما اختلفت طرق نقل الرواية عن السّبعة القرّاء، فرواه بعض الرّواة عنهم دون بعض.
3. الآحاد: وهو ما صحّ سنده وخالف الرّسم العثمانيّ أو العربيّة، وهذا النّوع لا يقرأ به، ومن أمثلته، وقد روي عن أبي بكر: (متكئين على رفارف خضرٍ وعباقريّ حسان)،
4. الشّاذّ: وهو ما لم يصحّ سنده، وهذا النّوع لا يُقرأ به، ومن أمثلته: (مَلَك يومَ الدّين) بصيغة الماضي في (ملك) ونصب (يومَ).
5. الموضوع: وهو ما نسب إلى غير صاحبه، أي: ما لا أصل له، وهذا لا يُقرأ به، ومن أمثلته القراءات التي جمعها محمد بن جعفر الخزاعيّ ونسبها إلى (أبي حنيفة) كقراءة: (إنّما يخشى اللهُ من عباده العلماءَ) برفع لفظ الجلالة ونصبِ العلماء.
6. المدرج: وهو ما زيد في القراءات على أنّه من التّفسير، مثل: قراءة ابن عبّاس، (ليس عليكم جناحٌ أن تبتغوا فضلاً من ربّكم في موسم الحجّ).
7. اللّحن أو التّصحيف: وهو خطأ من القارئ المبتدئ، أو سهوٌ أو غلطٌ ممّن نقله، وهذا يرفض ولا يُعدّ قراءةً ([24]).
سادسًا: القراءات – عددها والمعتمد منها
الحديث عن عدد القراءات القرآنيّة يستند إلى المعايير التي وضعت من قبل العلماء في شروط القراءة الصّحيحة، وقد صُنّفت القراءات عمومًا في أربع مجموعاتٍ:
1. القراءات السّبع
2. القراءات الثلاث المكمّلة للعشر
3. القراءات الأربع المكمّلة للأربع عشرة
4. القراءات الشّاذّة
والمعتمد من هذه القراءات أُجمع فيه على صحّة القراءات السّبع، إمّا على سبيل التّواتر أو الاشتهار، ونُقل عن معظم الأصوليّين والفقهاء حواز القراءة بالثّلاث الزّائدة على السّبع، حتة نفى بعضهم وجود أحدٍ من المسلمين يحظر القراءة بها، ووصف الشّيخ (تاج الدّين السّبكيّ) القراءات العشر بأنّها متواترةٌ معلومةٌ من الدّين بالضّرورة، أمّا القراءات الأربع الزّائدة على العشر، فقد وصفت بالشّذوذ، علمًا بأنّ هذا يتعارض مع وصف العلماء لقراءة الربعة عشر بأنّهم من أئمّة القراءات، ويسلب منهم إفرادهم بالذّكر ([25]).
سابعًا: صفات القارئ المعتمدة ([26])
1. أن يكون مسلمًا عاقلاً مأمونًا ضابطًا خاليًا من الفسق ومسقطات المروءة.
2. قراءة ما سمعه فقط.
3. الإخلاص.
4. الإتقان.
5. المعرفة في قواعد اللّغة العربيّة نحوًا وصرفًا، وكذلك ما يتّصل بالقرآن من الكلام، نحو: علم الأسانيد، علم الوقف والابتداء وغيرها.
6. الهيئة الخارجيّة: حسن المظهر، والتّحلّي بآداب القرآن.
7. يمكن له أن يجمع بين أكثر من قراءة.
وبالنّظر في هذه الصّفات يظهر أنّها تجمع بين ظاهر القارئ وباطنه، وهذا ما يؤكّد أهمّية موافقة باطن القارئ لظاهره، وقد حذّر النّبيّ صلّى الله عليه وسلم من القارئ الذي يقرأ لغايةٍ دنيويّة، إذ قال: "فَيَقُولُ اللَّهُ لِلْقَارِئِ: أَلَمْ أُعَلِّمْكَ مَا أَنْزَلْتُ عَلَى رَسُولِي؟ قَالَ: بَلَى يَا رَبِّ. قَالَ: فَمَاذَا عَمِلْتَ فِيمَا عُلِّمْتَ؟ قَالَ: كُنْتُ أَقُومُ بِهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَآنَاءَ النَّهَارِ، فَيَقُولُ اللَّهُ لَهُ: كَذَبْتَ، وَتَقُولُ لَهُ المَلَائِكَةُ: كَذَبْتَ، وَيَقُولُ اللَّهُ: بَلْ أَرَدْتَ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ فُلَانًا قَارِئٌ فَقَدْ قِيلَ ذَاكَ"([27]).
ثامنًا: نبذة عن أشهر القرّاء ([28])
1. نافع
- اسمه: نافع بن عبد الرحمن بن أبي نعيم المدنيّ.
- كنيته: أبو رويم.
- سنده: أبو جعفر القاري، وسبعون من التّابعين، وهؤلاء أخذوا القراءة عن عبد الله بن عبّاس وأبي هريرة، عن أبيّ بن كعب، عن رسول الله – صلى الله عليه وسلّم.
- مكانه: المدينة المنوّرة.
- وفاته: 169هـ.
- أشهر رواته: قالون، ورش.
2. ابن كثير
- اسمه: عبد الله بن كثير الدّاري
- كنيته: أبو محمد، أبو معبد
- سنده: مجاهد عن ابن عبّاس عن أبيّ بن كعب عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم.
عبد الله بن السّائب المخزوميّ عن أبيّ بن كعب وعمر بن الخطاب، عن رسول الله – صلى الله عليه وسلّم.
- مكانه: مكة المكرّمة
- وفاته: 120هـ
- أشهر رواته: البزّيّ، قنبل.
3. أبو عمر
- اسمه: زبّان بن العلا عمّار البصريّ
- كنيته: أبو عمرو
- سنده: مجاهد وسعيد بن جبير، عن ابن عباس، عن أبيّ، عن رسول الله – صلى الله عليه وسلّم.
- وفاته: 154هـ.
- أشهر رواته: الدّوريّ، السّوسيّ، بواسطة اليزيديّ أبي محمد يحيى بن المبارك العدويّ (202هـ).
4. ابن عامر
- اسمه: عبد الله اليحصبيّ.
- كنيته: أبو نعيم، وأبو عمران.
- سنده: المغيرة بن أبي شهاب المخزوميّ عن عثمان بن عفّان، عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم.
- وفاته: 118هـ.
- أشهر رواته: هشام، ابن ذكوان.
5. عاصم
- اسمه: عاصم بن أبي النّجود الأسديّ
- كنيته: أبو بكر
- سنده: زرّ بن حبيش عن عبد الله بن مسعود عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم.
أبو عبد الرحمن عبد الله بن حبيب السّلميّ، عن عليّ بن أبي طالب، عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم.
- وفاته: 127هـ.
- أشهر رواته: شعبة، حفص.
6. الكسائيّ
- اسمه: علي بن حمزة الكسائيّ النّحويّ
- كنيته: أبو الحسن
- وفاته: 189هـ
- أشهر رواته: أبو الحارث، الدّوريّ
7. حمزة
- اسمه: حمزة بن حبيب الزّيات الكوفيّ، مولى عكرمة بن ربيع التيميّ.
- كنيته: أبو عمارة
- سنده: أبو محمد سليمان بن مهران الأعمش، عن يحيى بن وثاب، عن زرّ بن حبيش، عن عثمان بن عفّان وعلي بن أبي طالب وعبد الله بن مسعود، عن رسول الله – صلى الله عليه وسلّم.
- وفاته: 156هـ
- أشهر رواته: خلف، خلاّد
8. أبو جعفر
- اسمه: يزيد بن القعقاع القاري
- كنيته: أبو جعفر
- سنده: عبد الله بن عباس وأبو هريرة عن أبيّ بن كعب، عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم.
- وفاته: 130هـ
- أشهر رواته: ابن وردان، ابن جمّاز
9. يعقوب
- اسمه: يعقوب بن إسحاق الحضرميّ
- كنيته: أبو محمد
- سنده: أبو المنذر سلام بن سليمان الطويل، عن عاصم وأبي عمر.
- وفاته: 205هـ
- أشهر رواته: روح، رويس
10. خلف
- اسمه: خلف بن هشام بن ثعلب بن خلف
- كنيته: أبو محمّد
- سنده: سليم عن حمزة، ويعقوب بن خليفة، وأبو زيد سعيد بن أوس الأنصاريّ، وأبان العطار، عن عاصم.
- وفاته: 229هـ
- أشهر رواته: المروزي، أبو الحسن إدريس بن عبد الكريم البغداديّ.
11. الحسن البصريّ
- اسمه: الحسن بن يسار أبو سعيد البصريّ (110هـ).
12. ابن محيصن
- محمد بن عبد الرحمن السهمي المكّي (123هـ).
13. يحيى الزّيديّ
- يحيى بن المبارك بن المغيرة المعروف بـ (اليزيديّ) – (202هـ).
14. الشّنبوذيّ
- محمد بن أحمد بن إبراهيم بن يوسف بن العبّاس بن ميمون أبو الفرج الشّنبوذيّ (388هـ).
*****
والحمد لله ربّ العالمين
*****
الهوامش
([1]) الفتياني، خالد إبراهيم: محاضرات في علوم القرآن، دار عمّار، عمّان – الأردن، ط2، 1996م، ص194.
([2]) الزّرقاني، محمد عبد العظيم (1367هـ): مناهل العرفان في علوم القرآن، دار الفكر، بيروت – لبنان، 1/284.
([3]) السّيوطيّ، عبد الرحمن بن أبي بكر (911هـ): الإتقان في علوم القرآن، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1974م، 1/256.
([4]) أبو بكر الباقلاني، محمد بن الطيب بن محمد (403هـ): الانتصار للقرآن، تحقيق محمد عصام القضاة، دار الفتح – عَمَّان، دار ابن حزم – بيروت، 2001م، 1/65.
([5]) ابن السَّلاَّر الشّافعي، عبدالوهّاب يوسف إبراهيم (782هـ): طبقات القراء السبعة وذكر مناقبهم وقراءاتهم، تحقيق أحمد محمد عزوز، المكتبة العصرية - صيدا بيروت، 2003م، ص70.
([6]) الفتياني: محاضرات في علوم القرآن، مصدر سابق، ص194.
([7]) عمر، أحمد مختار: لغة القرآن، مؤسسة الكويت للنّقد العلميّ، الكويت، ط2، 1997م، ص64.
([8]) السّابق نفسه.
([9]) السّابق نفسه، ص65 – 70.
([10]) الفتياني: محاضرات في علوم القرآن، مصدر سابق، ص195.
([11]) السّابق نفسه، ص196.
([12]) الفقير، نوح: عبق الرّيحان في علوم القرآن، 2001م، ص172.
([13]) ابن ماجة، أبو عبد الله محمد بن يزيد القزويني (273هـ): سنن ابن ماجه، تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي، دار إحياء الكتب العربية - فيصل عيسى البابي الحلبي، 2/1395.
([14]) الفقير، نوح: عبق الرّيحان في علوم القرآن، مصدر سابق، ص 173 – 174.
([15]) بدر الدين العيني، أبو محمد محمود بن أحمد بن موسى (855هـ): عمدة القاري شرح صحيح البخاري، دار إحياء التراث العربي – بيروت، 24/90.
([16]) الصالح، صبحي: مباحث في علوم القرآن، دار العلم للملايين، بيروت، ط16، 1985م، ص109.
([17]) السّابق نفسه.
([18]) عمر، أحمد مختار: لغة القرآن، مصدر سابق، ص71.
([19]) ابن الجزريّ، شمس الدين أبو الخير (833هـ): مَتْنُ «طَيِّبَةِ النَّشْرِ» فِي الْقِرَاءَاتِ الْعَشْرِ، تحقيق محمد تميم الزغبي، دار الهدى، جدة، 1994م، ص32.
([20]) عمر، أحمد مختار: لغة القرآن، مصدر سابق، ص76.
([21]) الفقير، نوح: عبق الرّيحان في علوم القرآن، مصدر سابق، ص 174 – 175.
([22]) السّابق نفسه.
([23]) الفتياني: محاضرات في علوم القرآن، مصدر سابق، ص198 – 199. عمر، أحمد مختار: لغة القرآن، مصدر سابق، ص75 – 76.
([24]) عمر، أحمد مختار: لغة القرآن، مصدر سابق، ص78.
([25]) السّابق نفسه، ص79 – 80.
([26]) جبريل، عبد الرحمن: المدخل إلى القراءات وأصول العشر المتواترات، دار الخليج، عمّان، 2000م، ص26 – 27.
([27]) التّرمذي، محمد بن عيسى بن سَوْرة (279هـ): سنن التّرمذيّ، تحقيق أحمد شاكر ومحمد عبد الباقي وإبراهيم عطوة عوض، شركة مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي – مصر، ط2، 1975م، 4/591.
([28]) الترجمة أخذت من: الزّرقاني، محمد: مناهل العرفان في علوم القرآن، مصدر سابق، ص315 وما بعدها.