التخطي إلى المحتوى الرئيسي

فقه اللّغة عند ابن فارس والثّعالبيّ – أبعاده ومفهومه


فقه اللّغة عند ابن فارس والثّعالبيّ – أبعاده ومفهومه 
بقلم/ الدّكتور عبد الكريم عبد القادر اعقيلان 

يُعدّ مفهوم (فقه اللغة) من المفاهيم الأساسيّة في الدّراسات اللّغويّة، وقبل تعريف هذا المفهوم، يسترعي الانتباه مجموعة من المؤلّفات التي عُنونت به لتشكّل مصطلحًا يعتلي صفحات الكتب، ومن أشهر المؤلّفات القديمة الصّريحة في هذا الباب: كتاب الصاحبي في فقه اللغة العربية ومسائلها وسنن العرب في كلامها، لابن فارس (395هـ)، وكتاب فقه اللغة وسر العربية، لأبي منصور الثّعالبيّ (429هـ)، وسأعرض لهذين المؤلّفين مبيّنًا أبعاد فقه اللّغة بحسب ما أورده كلٌّ منهما في كتابه، وصولاً إلى تحديد المقصود من فقه اللّغة وفق رؤية كلّ منهما. 
الصاحبي في فقه اللغة العربية ومسائلها وسنن العرب في كلامها، لابن فارس (395هـ) 
جمع ابن فارس في هذا الكتاب جملة من المسائل اللّغوية، يُمكن تصنيفها كالآتي: 
أوّلاً: الفلسفة اللّغويّة 
فقد تناول مجموعة من المسائل التي تندرج تحت ما يُمكن وصفه بالفلسفة اللّغويّة، كالحديث عن نشأة اللّغة، ورأيه في أنّها توقيفيّة، وما ذهب به إلى تفضيل العربيّة على سائر اللّغات، فقد قدّم فيها رؤيته للّغة العربيّة من جانبٍ فلسفيّ اعتمدَ فيها على منطلقات دينيّة استشهد بها على رؤيته للغة في هذه الجوانب، وقد تسرّب هذا البعد في ثنايا المسائل التي عرضها في كتابه، إذ كان يُشير إلى تميّز العربيّة فيها عن غيرها. 
ثانيًا: البُعد الكتابيّ والصّوتي
وهذا البعد يتجلّى في حديثه عن الخطّ العربيّ وأصل نشأته، وتناول في هذا البعد الحديث عن حروف العربيّة وإن كان تركيزه قد انصبّ على بيان وجود رسمٍ خاصّ بحروف العربيّة ومعرفة العرب لهذا الرّسم إلا أنّه أشار إلى أن الحديث عن الحروف المكتوبة يرتبط بالحديث عن الأصوات المنطوقة كما في إشاراته إلى السكون والحركة والهمز والمدّ، وهو في بيانه ذلك يبرز معرفة العرب بحروفهم وأصواتهم. 
ثالثًا: البعد المعجميّ 
وتظهر مسائل هذا الجانب في حديثه عن الإحاطة بمفردات اللغة وتعدّد طرق لفظها بما أطلق عليه تسمية (اللّغات)، وحديثه عن باب الأسماء كيف تقع على المسميات، وقد اعتمد في رؤيته في هذا البُعد على الشّواهد اللّغويّة: كالقرآن الكريم، والحديث النبويّ، والشّعر، وكلام العرب، وكان عمله هذا وصفيًّا يفسّره في بعض الأحيان. 
رابعًا: البعد الصّرفيّ 
ويشتمل حديثه في هذا الجانب على عدّة أمور، منها: أقسام الكلمة وزيادات الأسماء، ومعاني زيادة الحروف، وإشاراته لأثر الحروف في التثنية والجمع والتّصغير والنّسب، فهو في حديثه عن هذه المسائل أظهر الأثر في بنية الكلمة. 
خامسًا: البعد النّحويّ
وقد برزت مظاهر هذا البعد في حديثه عن الحروف، وقد أشار إلى أنّ هذا الحديث يرد في كتب الأصول كما وصفها، ومن ذلك حديثه عن المواقع الإعرابيّة وعلاقة ارتباط الحروف بتلك المواقع، وكذلك حديثه عن حروف المعاني، ولعل وصفه لباب هذا الحديث بأنّه من (الأصول) إشارة منه إلى أنّ النّحو في ذلك العهد يُعدُّ الأصل في توصيف أحكام اللّغة العربيّة، وارتباطاتها. 
سادسًا: البعد البلاغيّ 
وقد برز هذا البعد في حديثه عن الحقيقة والمجاز ومعاني الكلام وأقسامه التي أشار إليها كالخبر والنّهي والأمر والطلب والتّحضيض، وغيرها، وما يلفت الانتباه في كلامه أنّه أشار إلى الفرق بين رؤية (أهل اللغة) و (أهل النّظر) عند التّفريق بين هذه المعاني، ومن ذلك حديثه عن الخبر، وكأنّه يقصد بأهل النّظر أصحاب الرأي الذين يعتمدون عل العقل في تفسير المعاني، بينما يعتمد أهل اللّغة على النّقل في تفسيراتهم. 
سابعًا: البعد الدّلاليّ
ويبرز هذا البعد في حديث ابن فارس عن المسائل التي يوردها، فقد كان حريصًا على تحديد معاني الأساليب والألفاظ التي يوردها، كحديثه عن (الأسماء كيف تقع على المسميات) إذ أشار إلى الفرق بين دلالات الألفاظ وإن كانت مترادفة، فالدلالة تعد محور تفسيره لتلك المسائل. 
فقه اللغة وسر العربية، لأبي منصور الثّعالبيّ (429هـ) 
جعل الثّعالبيّ كتابه في قسمين: الأوّل (فقه اللغة)، وبالنّظر في مضمون هذا القسم يظهرُ جليًّا تبنّي الثّعالبيّ لبعدين من الأبعاد في تناول الألفاظ المفردة، أوّلهما: البعد المعجميّ وقد برز هذا البعد في تقديم تفسيرٍ للمفردات والألفاظ العربيّة ضمن أبواب متفرّقة، جعلها واحدًا وثلاثين بابًا، جمع فيها الألفاظ التي تندرج في كلّ باب ومعنى تلك الألفاظ في الاستعمال العربيّ لها، وثانيهما: البعد الدّلاليّ، وهو متضمّنٌ في تفسير الألفاظ التي أوردها في هذا القسم، وبيان مدلولها عند العرب، واختلاف الأحوال التي تردُ فيها. 
وأمّا القسم الثّاني (سرّ العربيّة) فقد جعله الثّعالبيّ في تسعةٍ وتسعين فصلاً، تناول فيه التّراكيب اللّغويّة إلى جانب الألفاظ المفردة، وما يرتبط بها من آثار دلاليّة، وبذلك؛ تنوعت الأبعاد التي اشتمل عليها هذا القسم فشملت الأبعاد النّحويّة، والصّرفيّة والبلاغيّة والدّلاليّة، مع وجود اصطلاحاتٍ خاصّة لمحتويات كلّ بعدٍ من هذه الأبعاد، ما يجعل كتابه مهمًّا للكشف عن المصطلح اللّغويّ ودلالته في تلك الأبواب. 
ومن خلال ما سبق يتبيّن ما يأتي: 
أوّلاً: يُشكّل كتاب ابن فارس نواة تأسيس الاصطلاح على مفهوم (فقه اللّغة)، وقد كانت رؤيته في هذا الكتاب تنطلق من بُعدٍ فلسفيّ في وصف اللّغة العربيّة، وهذا البعد هو ما يُميّز البحث في فقه اللّغة عن البحث في مسائل اللّغة الأخرى، فهو مع تناوله لأبعاد اللّغة التي أوردناها سابقًا، كانت رؤيته تتجّه نحو الكشف عمّا تتميّز به العربيّة في تلك الأبعاد، فيكون فهم تلك الأبعاد أساسًا للفقه في اللّغة العربيّة، ويلتقي الثّعالبيّ في كتابه بابن فارس بالرؤية العامّة لتناول الأبعاد اللّغويّة المتنوّعة، فكان تركيزه منصبًّا على ما يتميّز به العرب في استعمالهم للألفاظ والتّراكيب، ولعل هذا الاتّفاق مشتركٌ أيضًا في اختيار تسمية الكتابين فقد اشتمل الأوّل على (سنن العرب) واشتمل الثّاني على (سرّ العربيّة) فكلامهما يركّز في مضمونه على ما يخصّ العربيّة تحقيقًا للتفقّه فيها والعلم بقوانينها. 
ثانيًا: يُشكّل الكتابان خطًّا متميّزًا عن بقيّة المؤلّفات اللّغويّة السّابقة واللاّحقة لهما، وذلك في كونهما لم يتخصّصا في بابٍ لغويٍّ واحدٍ، فتنوّع الأبعاد اللّغويّة في محتوى الكتابين إضافةً إلى تحديد المنهج المتبع في بحث مسائله وتخصيصه في الكشف عن التّفرّد العربيّ فيها، ميّز الكتابين في المنهج والغاية، وعندما نتحدّث عن القرن الرّابع والخامس، فإنّنا نذكر أنّ الخطوط العامّة لمعالم اللّغة العربيّة كانت قد بدأت حدودها تتميّز، ونذكر من ذلك: أسرار البلاغة، والمفتاح في الصرف، لعبد القاهر الجرجاني (471هـ)، فعملهما يتماشى مع حركة التّميّز التي شهدتها اللّغة العربيّة في التّأليف اللّغويّ، وهو تميّزٌ في الاصطلاح وفي المنهج. 
ثالثًا: تعريف فقه اللّغة عند ابن فارس والثّعالبيّ 
يقول ابن فارس في خطبة كتابه: " إن لعلم العرب أصلا وفرعا: أما الفرع: فمعرفة الأسماء والصفات كقولنا: (رجل) و(فرس) و(طويل) و(قصير)، وهذا هو الذي يبدأ به عند التعلم، وأما الأصل: فالقول على موضوع اللغة وأوليتها ومنشأها، ثم على رسوم العرب في مخاطبتها، وما لها من الافتنان تحقيقًا ومجازًا، والناس في ذلك رجلان: رجل شغل بالفرع فلا يعرف غيره، وآخر جمع الأمرين معا، وهذه هي الرتبة العليا"، وأشار الثّعالبيّ إلى مفهوم فقه اللّغة من خلال ذكر أهمّيّة " الإحاطة بخصائصها والوقوف على مجاريها ومصارفها والتبحر في جلائها ودقائقها". وبناءً على ذلك، يمكن أن أقدّم مفهوم فقه اللّغة على أنّه: 
علمٌ بالنّظام اللّغويّ الذي تسير عليه اللّغة في جميع مستوياتها؛ لتحقيق الفهم الصّحيح لاستعمالها وطرق تأديتها ودلالة ألفاظها وتراكيبها. وبناءً على ذلك، تكون دراسة مستويات اللّغة وإدراك المؤثّرات التي تستدعي التّغييرات الحاصلة فيها بمثابة مراحل للوصول إلى الفقه في اللّغة.
وأخيرًا... 
يُشكّل مفهوم فقه اللّغة بُعدًا مميّزًا في الدّراسات اللّغويّة، ويمكن توظيف هذا البُعد في إجراء دراسات لغويّة حديثة تتّخذ من الخصائص المميّزة لكلّ لغة منطلقًا لتقديم أبحاثٍ علميّة تكشف عن التّعالقات اللّغويّة المحتملة بين الشّعوب، وتُساهم في رسم معالم خارطة الحركة اللّغويّة عبر التّاريخ...

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

القبائل الّتي يُحتجّ بلغتها في أصول العربيّة

بقلم: الدكتور عبدالكريم اعقيلان عناصر الموضوع: - سبب تحديد القبائل الّتي يُحتجّ بلغاتها. - تحديد القبائل الّتي يُحتجّ بلغاتها. - تداخل عنصريّ الزّمان والمكان في الاحتجاج اللّغويّ. - تحديد القبائل الّتي لم يُحتجّ بلغاتها. المراجع: - الفارابي : الألفاظ والحروف - السيوطي : الاقتراح - السيوطيّ: المزهر - ابن جنّي: الخصائص - محمّد عبده فلفل: اللّغة الشّعريّة عند النّحاة - مصطفى الرّافعيّ: تاريخ آداب العرب ***** أولاً: سبب تحديد القبائل الّتي يُحتجّ بلغاتها: تدخل قضيّة القبائل الّتي يُحتجّ بلغاتها في أصول اللّغة من كونها المستند الّذي يعتمده اللّغويّون في تقعيد اللّغة، أو وضع القاعدة اللّغويّة، والكلام المُتداول هو المسرح الّذي استمدّ منه اللّغويّون شواهدهم اللّغويّة، وهو مساحةٌ كبيرة من شرائح المجتمع، الّذي تدور اللّغة في فلكه، وتنشأ في أحضانه. وقد كان السّبب الرّئيس لتحديد هذه القبائل مرتبطاً ارتباطاً وثيقاً بخدمة القرآن الكريم، وهو الكتاب المبين الّذي نزل بلسان العرب ولغتهم، وقد ترتّب على هذا الأمر أن يحرص اللّغويّون على اختيار المستوى ال...

نبذة مختصرة في علم البيان

بقلم  الدّكتور/ ضياء الدّين الحموز جاء الدرس البلاغيّ عند القدماء مدفوعاً برغبة معرفة دقائق اللغة العربيّة، وأسرارها، والكشف عن وجوه الإعجاز في نظم القرآن الكريم وصولاً إلى قوانين تمكنهم من الوقوف على مقاصد الشارع الحكيم، وتمكنهم من محاكاة أسلوب النظم القرآني المعجز، وقد انقسم الدرس البلاغيّ عندهم إلى ثلاثة أقسامٍ أساسيّة، هي: البيان، والمعاني، والبديع، وحديثنا في هذه الورقات مختصّ بالبيان.  يبحث علم البيان في وسائل التصوير الفنّي، وأهمّها : التشبيه، والكناية والاستعارة، ويقيم هذا العلم حتى وقت متأخّرٍ من الدراسات البلاغيّة القديمة فواصل بين هذه الأنواع الثّلاثة، وقد باتت هذه الأصول الثّلاثة- إن صحّ التعبير- تدخل في إطار ما يعرف الآن بـ (الصّورة الشّعريّة) أو (اللّوحة الفنّيّة).  ويمكن الوصول إلى البيان العربيّ من خلال مؤلفات الأقدمين الذين أثروا المكتبة العربيّة بذخائر الأدب والثقافة والعلوم اللّغويّة، ومن أشهر المؤلفات البلاغية التي عنيت بالبيان العربي قديماً: - البيان والتبيين : الجاحظ 255هـ. - البديع: عبدالله بن المعتزّ 296هـ.  - نقد الشّعر: قدامة بن جعفر 337هـ...

مقدّمة الجاحظ في كتاب الحيوان- عرض وتقديم

بسم الله الرّحمن الرّحيم  بقلم الدكتور عبدالكريم عبدالقادر اعقيلان   عمرو بن بحر الجاحظ، ومن لا يعرف أبا عثمان؟ هل يعيبه أنه نشأ يبيع الخبز، والسمك بنهر سيحان؟ أم لأنه أعجمي الأصل وينافح عن العربية؟ مالذي عابوه على هذا الرجل، حتى يقفوا أمامه يتعرضون لما يكتب، ويؤلف، وينشر؟  لن أدافع عنه…  بل في سيرة حياة هذا الرجل ما يقطع قول كل حكيم. وماذا أقول فيمن أخذ عن علماء اللغة، أصولها، فبرع فيها، حتى إنك لا تكاد تجد مؤلفاً في اللغة، إلا وفيه رأيٌ للجاحظ، أو شاهد؟. وهو الذي لم يكن يقع في يديه كتابٌ، إلا ويقرأه من أوله إلى آخره. بل لقد كان يكتري دكاكين الوراقين، يبيت فيها للقراءة، والنظر. وما هذه الكتب التي يقرأها؟ فيها من كل ما ترجم عن ثقافات الفرس، والهند، واليونان. ولم تكن ثقافة العرب ودينها، عنه ببعيدان.  لن أدافع عنه…  فلهذا الرجل لسانه، الذي نافح به عن العربية، في وجه الشعوبية، دفاعاً، لن تجد من أهل العربية، أنفسهم، من يدافع مثله. وهو الذي قال:" كلام العرب بديهة وارتجال، وكأنه إلهام".  لن أدافع عنه…  وهل هو بحاجةٍ إلى من يدافع عنه؟ وقد كان معتزلي الف...