التخطي إلى المحتوى الرئيسي

التّفريق اللّغويّ – مفهومه وأبعاده




التّفريق اللّغويّ – مفهومه وأبعاده

بقلم الدّكتور/ عبدالكريم عبدالقادر اعقيلان

اتّجهت الدّراسات اللّغويّة العربيّة منذ نشأتها إلى تقرير القواعد اللّغويّة مستعينةً بجملةٍ من الأسس الفكريّة التي تُسهم في استيعاب النّمو اللّغويّ الذي يعايش التّطوّر الحضاريّ والاتّساع الجغرافيّ، ومن جملة أعمال تلك الدّراسات إقرار الأصول التي تُبنى عليها مصادر تقرير القواعد اللّغويّة انطلاقًا من مبدئيّ السّماع والقياس، مرورًا بمبدأ العامل والمعمول، إضافةً إلى الأسس التي اشتملت على منطلقات تقوم على إطلاق أحكام لغويّة تستند إلى تعليلات تؤيّدها، ومصطلحات تعبّر عنها، أسهمت في بناء أسسٍ لغويّة حافظت على هويّة اللّغة وساهمت في استيعاب كل ما يستجدّ من معانٍ وأفكار.

والمتتبّع لأعمال اللّغويّين يجد أنّهم استعانوا بمبدأ يقوم على التّمييز بين أكثر من عنصر لغويّ سواءً أكان تركيبًا أم بنيةً لغويّةً مفردةً، لتحقيق كثيرٍ من الغايات منها أمن اللّبس في التّقعيد والاستعمال، فكان هذا المفهوم مساهمًا في تعليل المسألة اللغويّة أو تسويغ القاعدة اللغويّة والإحاطة بأبعادها، وقد ورد هذا المبدأ بمُسمّى (التّفريق) في كثيرٍ من كتب القدماء، وكأنّه يكاد يتربّع على عرش المنهجيّة الفكريّة التي تُعالج المسائل اللّغويّة بمنطق التّوضيح القائم على عرض المتقابلات اللّغويّة لتعزيز فهمها والتّمكن من إجراءات توظيفها في توصيف الواقع اللّغويّ تقعيدًا واستعمالاً، ويظهر مبدأ التّفريق في عمل اللّغويّين في عدّة صور، منها:

مبدأ توصيف العناصر اللّغويّة المتقابلة، ويظهر فيما يأتي:

  • التّمييز في توصيف دلالة المصطلحات اللّغويّة، كما في توصيف أقسام الكلمة والتّفريق بين النّكرة والمعرفة.
  • التّمييز في توصيف وظائف العناصر اللّغويّة، كالتّفريق بين الحال والتّمييز، والتّفريق بين المبتدأ والخبر.
  • التّمييز في توصيف الأصوات اللّغويّة، كالتّفريق بين همزة الوصل وهمزة القطع، والتّفريق بين الضّاد والظّاء.
  • التّمييز في توصيف الأبنية الصّرفية، كالتّفريق بين فَعَلَ وفَاعَلَ، والتّفريق بين فَعَل واستفعَلَ.

ويُعدّ هذا النّمط من التّمييز قائمًا على اجتهاد اللّغويّين في تحقيق أقصى درجات توصيف حدود المسائل اللّغويّة والاستعانة بالتقابل اللّغويّ للتّخلّص من التّناقضات التي يُمكن أن تظهر في ذلك التّوصيف أو التّأكيد بأنّ توصيفهم قد استقصى جميع الجوانب التي تُحقق التّمايز في فهم القاعدة اللّغويّة وتُسهّل من عمليّة تعليمها وتوضيحها.

مبدأ التمييز بالاصطلاح على العلامات اللّغويّة الفارقة، ويظهر فيما يأتي:

  • التّمييز بالألف الفارقة بين نون النّسوة ونون التّوكيد
  • التّمييز بالتّاء الفارقة بين المذكّر والمؤنّث
  • التّمييز باللام الفارقة بين (إنْ) المخفّفة و (إنْ) النّافية لتفريقها بين النّفي والإثبات
  • التّمييز بين الواحد وجنسه من خلال الياء المشدّدة مثل (عربيّ – عرب) أو التّاء مثل (تمرة – تمر)
  • التمييز بين الاسم والفعل في البنية اللّغويّة من خلال الألف الفارقة التي تلحق واو الجماعة

وينبع هذا الاتّجاه في الاصطلاح المستند إلى العلامات اللّغويّة الفارقة من إحساس اللّغويّين بضرورة الاستعانة بواقع الاستعمال اللّغويّ لتوظيف معطياته في توصيف الفروق اللّغويّة التي تنتج من الاختلاف في الدّلالة اللّغويّة أو البنية اللّغويّة أو التّأثّر بسياق الأداء اللّغويّ، فكان لابدّ من توظيف هذا التّفريق الاستعماليّ في توصيف المسائل اللّغويّة بمنحها اصطلاحًا يبرز ذلك الاختلاف ويسهم في تحقيق أمن اللّبس في الاستعمال أو فهم القاعدة اللّغويّة.

ولم يكن مبدأ التّفريق بغائبٍ عن العلماء القدامى، فها نحن نجد لهم من المؤلفات التي رسمت عناوينها بمبدأ التّفريق، كما نجد في كتاب (الفروق اللّغويّة) لأبي هلال العسكريّ (395هـ)، الذي يُعد أشهر كتب الفروق اللّغويّة، ولعلّ هذا الإدراك لأهمّيّة تحديد الفروق اللّغويّة له دافعٌ أدّى إلى اهتمام العلماء به وتوظيفه في عملهم اللّغويّ، ويُمكن تفسير هذا الاهتمام بأنّه نابعٌ من إدراك السّعة اللّغويّة التي تعبّر عنها اللّغة العربيّة، فهناك التّرادف اللّغويّ وهناك التّضاد اللّغويّ وهناك المشترك اللّفظيّ، وغيرها من المصطلحات التي تُشير إلى وعي العلماء بضرورة وضع حدود مميّزة للمصطلحات التي يتبنّونها.

ومن جانبٍ آخر، تُعدّ ظاهرة التّفريق أو التّمييز بين المصطلحات جزءًا من صميم الفكر الإنسانيّ؛ ذلك أنّ طبيعة الإنسان قد جُبلت على التّمييز بين الخير والشّر، والخوف والأمن، والصدق والكذب، فالتّفريق بين الأشياء هو طبيعة إنسانيّة تعمل على إيجاد توازن عقليّ في التّعامل مع الأشياء، واللّغة هي المظهر التي عبّر عن هذه الثّنائيّات التي تستدعي التّفريق بينها، ولذلك لا يُستغرب أن تنعكس هذه الطّبيعة على الأعمال اللّغويّة التي قدمها العلماء ويقدّمونها.

ولا يفوتنا أن نشير إلى أنّ دراسة اللّهجات بما تحتويه من علامات لغويّة فارقة قد عزّزت ضرورة توضيح الحدود اللّغويّة، بالإضافة إلى التّنوّع الذي جاء به القرآن في ميدان القراءات القرآنيّة والتّوسّع اللّغويّ الذي يكشف عن الحجم الكبير الذي يُمكن للغة أن تستوعبه من الأفكار.

ومع الاتّساع الحضاريّ الذي شهدته البيئة العربيّة والانفتاح على المعارف والعلوم الأجنبيّة كانت الأعمال التّقابليّة والأعمال المقارنة قد فرضت نفسها على البحث في كثيرٍ من القضايا اللّغويّة مع مرور الزّمن، وبذلك؛ فإنّ ميدان التّفريق اللّغويّ يزخر بالعديد من المسائل اللّغويّة التي يُمكن أن تُبحث في الدّراسات اللّغويّة، ويُمكن لهذه الدّراسات أن تُضيف إلى المكتبة العربيّة نتاجات أكاديميّة واعدة.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

القبائل الّتي يُحتجّ بلغتها في أصول العربيّة

بقلم: الدكتور عبدالكريم اعقيلان عناصر الموضوع: - سبب تحديد القبائل الّتي يُحتجّ بلغاتها. - تحديد القبائل الّتي يُحتجّ بلغاتها. - تداخل عنصريّ الزّمان والمكان في الاحتجاج اللّغويّ. - تحديد القبائل الّتي لم يُحتجّ بلغاتها. المراجع: - الفارابي : الألفاظ والحروف - السيوطي : الاقتراح - السيوطيّ: المزهر - ابن جنّي: الخصائص - محمّد عبده فلفل: اللّغة الشّعريّة عند النّحاة - مصطفى الرّافعيّ: تاريخ آداب العرب ***** أولاً: سبب تحديد القبائل الّتي يُحتجّ بلغاتها: تدخل قضيّة القبائل الّتي يُحتجّ بلغاتها في أصول اللّغة من كونها المستند الّذي يعتمده اللّغويّون في تقعيد اللّغة، أو وضع القاعدة اللّغويّة، والكلام المُتداول هو المسرح الّذي استمدّ منه اللّغويّون شواهدهم اللّغويّة، وهو مساحةٌ كبيرة من شرائح المجتمع، الّذي تدور اللّغة في فلكه، وتنشأ في أحضانه. وقد كان السّبب الرّئيس لتحديد هذه القبائل مرتبطاً ارتباطاً وثيقاً بخدمة القرآن الكريم، وهو الكتاب المبين الّذي نزل بلسان العرب ولغتهم، وقد ترتّب على هذا الأمر أن يحرص اللّغويّون على اختيار المستوى ال...

نبذة مختصرة في علم البيان

بقلم  الدّكتور/ ضياء الدّين الحموز جاء الدرس البلاغيّ عند القدماء مدفوعاً برغبة معرفة دقائق اللغة العربيّة، وأسرارها، والكشف عن وجوه الإعجاز في نظم القرآن الكريم وصولاً إلى قوانين تمكنهم من الوقوف على مقاصد الشارع الحكيم، وتمكنهم من محاكاة أسلوب النظم القرآني المعجز، وقد انقسم الدرس البلاغيّ عندهم إلى ثلاثة أقسامٍ أساسيّة، هي: البيان، والمعاني، والبديع، وحديثنا في هذه الورقات مختصّ بالبيان.  يبحث علم البيان في وسائل التصوير الفنّي، وأهمّها : التشبيه، والكناية والاستعارة، ويقيم هذا العلم حتى وقت متأخّرٍ من الدراسات البلاغيّة القديمة فواصل بين هذه الأنواع الثّلاثة، وقد باتت هذه الأصول الثّلاثة- إن صحّ التعبير- تدخل في إطار ما يعرف الآن بـ (الصّورة الشّعريّة) أو (اللّوحة الفنّيّة).  ويمكن الوصول إلى البيان العربيّ من خلال مؤلفات الأقدمين الذين أثروا المكتبة العربيّة بذخائر الأدب والثقافة والعلوم اللّغويّة، ومن أشهر المؤلفات البلاغية التي عنيت بالبيان العربي قديماً: - البيان والتبيين : الجاحظ 255هـ. - البديع: عبدالله بن المعتزّ 296هـ.  - نقد الشّعر: قدامة بن جعفر 337هـ...

مقدّمة الجاحظ في كتاب الحيوان- عرض وتقديم

بسم الله الرّحمن الرّحيم  بقلم الدكتور عبدالكريم عبدالقادر اعقيلان   عمرو بن بحر الجاحظ، ومن لا يعرف أبا عثمان؟ هل يعيبه أنه نشأ يبيع الخبز، والسمك بنهر سيحان؟ أم لأنه أعجمي الأصل وينافح عن العربية؟ مالذي عابوه على هذا الرجل، حتى يقفوا أمامه يتعرضون لما يكتب، ويؤلف، وينشر؟  لن أدافع عنه…  بل في سيرة حياة هذا الرجل ما يقطع قول كل حكيم. وماذا أقول فيمن أخذ عن علماء اللغة، أصولها، فبرع فيها، حتى إنك لا تكاد تجد مؤلفاً في اللغة، إلا وفيه رأيٌ للجاحظ، أو شاهد؟. وهو الذي لم يكن يقع في يديه كتابٌ، إلا ويقرأه من أوله إلى آخره. بل لقد كان يكتري دكاكين الوراقين، يبيت فيها للقراءة، والنظر. وما هذه الكتب التي يقرأها؟ فيها من كل ما ترجم عن ثقافات الفرس، والهند، واليونان. ولم تكن ثقافة العرب ودينها، عنه ببعيدان.  لن أدافع عنه…  فلهذا الرجل لسانه، الذي نافح به عن العربية، في وجه الشعوبية، دفاعاً، لن تجد من أهل العربية، أنفسهم، من يدافع مثله. وهو الذي قال:" كلام العرب بديهة وارتجال، وكأنه إلهام".  لن أدافع عنه…  وهل هو بحاجةٍ إلى من يدافع عنه؟ وقد كان معتزلي الف...