بقلم/ الدكتور عبدالكريم عبدالقادر اعقيلان
الكلمة ومرجعيّة الدّلالة...
لقد تناول فلاسفة اليونان الكلمة في البحث وربطوها بسلسلة من الإجراءات العقليّة التي تنتمي إلى مستوًى من التّفكير الذي قد يكون أصله ارتباطٌ إلهيّ قذف هذه الكلمة في النّفس وحمّلها تلك المعاني والأفكار، وهو رأيٌ تبنّته الاتّجاهات الدّينيّة لوجود مستندٍ من الوحي الإلهيّ يُشير إليه، وإلى جانب ذلك، ظهرَ القول بالتّواضع على هذه الكلمة انطلاقًا من الرّغبة في رسم معالم العلاقات البشريّة وارتباطاتها مع الطّبيعة، ولهذا الرّأي حججه التي تستندُ إلى شواهد من الاستعمال اللّغويّ لبعض الكلمات أو اللّغات التي قامت على تواضع العقل الجمعيّ للمجتمعات في توصيفها واستعمالها، إلاّ أنّ أوّليّة الوضع وجدليّة الإقرار بثبوته تحول دون القطع بحدوده الزّمانيّة أو المكانيّة، أو الإنسانيّة، ولذلك ظهر تفسيرٌ لارتباط الكلمة بمعانيها الدّارجة نَسَبَه الفلاسفة إلى أقوامٍ بادوا وقد امتلكوا مهاراتٍ عقليّة مكّنتهم من وضع تلك الكلمات ورسم معالمها الدّلاليّة، وهو تفسيرٌ لا يُضيف رأيًا ثالثًا بقدر ما يُقدّم مخرجًا لرافضي القول بإلهيّة صنع الكلمة كما أنّه مخرجٌ للقائلين بالتّواضع عليها، وفي كلا الحالين ليس لهذا الرأي مستندٌ يدعمه أو يرتقي به إلى مستوى القولين السّابقين.
وعند الحديث عن ألفاظ القرآن الكريم فإنّها تُحاط بخصوصيّة من حيث البنية والتّركيب، فدراسة هذه الألفاظ تستدعي مراعاة أهمّية كل كلمة في موضعها، وأمّا محاولات تأويل هذه الألفاظ فتأتي في سياق تفسيرها وتوضيحها، ولا يعني ذلك إمكانيّة الاستغناء عنها في موضعها، ولا ينطلق هذا القول من أساس الإيمان بأنّه كلام الله عزّ وجلّ الذي لا ينبغي التّصرّف فيه، فحسب، بل إنّ واقع النّظم البياني للقرآن الكريم قد أتى بأرقى مستويات اللّغة فصاحة وبلاغة وبيانًا، وهو يعلو ولا يُعلى عليه، فهذه الألفاظ قد "تناسقت دلالاتها وتلاقت معانيها على الوجه الذي اقتضاه العقل" (الجرجانيّ، دلائل الإعجاز، 1/49-50)، ومن الألفاظ التي نقدمها في معرض هذا الحديث، لفظة (كلمة)، ونبحثها في جانبين:
الجانب الأوّل: (الكلمة) في سياقها اللّغويّ
يقول ابن فارس في مقاييسه: "الْكَافُ وَاللَّامُ وَالْمِيمُ [كلم] أَصْلَانِ: أَحَدُهُمَا يَدُلُّ عَلَى نُطْقٍ مُفْهِمٍ، وَالْآخَرُ عَلَى جِرَاحٍ، فَالْأَوَّلُ الْكَلَامُ. تَقُولُ: كَلَّمْتُهُ أُكَلِّمُهُ تَكْلِيمًا، وَهُوَ كَلِيمِي إِذَا كَلَّمَكَ أَوْ كَلَّمْتَهُ، ثُمَّ يَتَّسِعُونَ فَيُسَمُّونَ اللَّفْظَةَ الْوَاحِدَةَ الْمُفْهِمَةَ كَلِمَةً، وَالْقِصَّةَ كَلِمَةً، وَالْقَصِيدَةَ بِطُولِهَا كَلِمَةً، وَيَجْمَعُونَ الْكَلِمَةَ كَلِمَاتٍ وَكَلِمًا. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ} [النساء: 46]، وَالْأَصْلُ الْآخَرُ الْكَلْمُ، وَهُوَ الْجُرْحُ، وَالْكَلَامُ: الْجِرَاحَاتُ، وَجَمْعُ الْكَلْمِ كُلُومٌ أَيْضًا، وَرَجُلٌ كَلِيمٌ وَقَوْمٌ كَلْمَى، أَيْ جَرْحَى، فَأَمَّا الْكَلَامُ، فَيُقَالُ: هِيَ أَرْضٌ غَلِيظَةٌ. وَفِي ذَلِكَ نَظَرٌ" (ابن فارس، معجم مقاييس اللّغة، 5/131)، ومن هذا التّعريف اللّغويّ، يظهرُ بأنّ لفظة (كلمة) تدلّ على المنطوق المُفْهِم، وليس للأصل الثّاني دلالة على هذا المعنى، أي: (الجراح) فهي (الكَلْم)، أمّا (كلمة) فهي التي تُعبّر عن الأصل المنطوق المُفْهِم وهو (الكلام).
وأمّا التّوسّع الذي أُشير إليه مثل: (اللّفظة)، (القصّة)، و(القصيدة)، فهي داخلةٌ في هذا الأصل المنطوق، أيضًا، لكنّه يُضيف إلى استعمال (الكلمة) استعمالاً مجازيًّا، وعليه يكون أصل دلالة لفظة (كلمة) هو اللّفظة الواحدة، وما جاوز ذلك من الكمّيّة الملفوظة يدخل في باب التّوسّع، وهو بابٌ يُشيرُ إليه اللّغويّون عند تعبيرهم عن خروج الألفاظ أو التّراكيب عن استعمالاتها الأصليّة، أو خروجها عن قاعدةٍ معيّنة، أو عند الزّيادة في المعنى، وأمّا البنية الصّرفيّة لـ (كلمة) فتُجمع على (كَلِمَات)، و(كَلِم)، وأمّا الكلام فهو اسمٌ للّفظ المُفيد الذي له معنًى، وأمّا ما خرج عن الفائدة فلا يُقال له (كلام)، بل يَبقى في دائرة اللّفظ المنطوق دون أن يُسمّى (كلمة)، وهذا هو الأصل في توظيف هذا البناء في الاستعمال اللّغويّ.
الجانب الثّانيّ: (الكلمة) في سياقها القرآنيّ
وردت لفظة (كلمة) في القرآن الكريم بصيغة المفرد في واحدٍ وعشرين موضعًا، وبالنّظر في جميع المعاني التي استعملت فيها لفظة (كلمة) بصيغة المفرد في القرآن الكريم في الواحد والعشرين موضعًا، يظهرُ بأنّ استعمالها جاء من باب التّوسّع والإيجاز، وهذا يعني أنّ استعمال القرآن لهذه اللّفظة بهذه الصّيغة قد جاء وفق سنن العربيّة في الواقع، وكان جلّ هذا الاستعمال من باب التّوسّع والإيجاز في نوعين:
الأوّل: التّوسّع والإيجاز اللّفظيّ، وهو تعبيرٌ عن أنّ لفظة (كلمة) جاءت لتوجز لفظًا آخر في السّياق، كأن يكون اسمًا مثل: (عيسى) عليه السّلام فهو كلمة الله الذي أوجده بقوله (كن)، ومثل قول إبراهيم لأبيه وقومه: (إنني براءٌ ممّا تعبدون – الزّخرف 28)، وقول المنافقين: (لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجنّ الأعزّ منها الأذلّ – التوبة 74).
الثّاني: التّوسّع والإيجاز المعنويّ، وهو تعبيرٌ عن أنّ لفظة (كلمة) جاءت لتوجز معنًى آخر مفهومًا من السّياق، كالتّعبير عن الأمر والشّأن كما في قوله تعالى: (كلمة الله هي العليا – التوبة 40)، و(كلمة الذين كفروا السّفلى – التوبة 40)، والتّعبير عن وعيد الله للكافرين بالعذاب، كما في قوله تعالى: (حقت عليهم كلمة العذاب).
وإذا نظرنا إلى جمع لفظة (كلمة) وهو (كلمات)، نجد أنّها وردت في أربعة عشر موضعًا، وهي أيضًا لا تخرج عن هذين التوصيفين، ففي قوله تعالى: (فتلقّى آدم من ربّه كلماتٍ فتاب عليه – البقرة 37)، و(كلمات) هنا، تعني: " إما كلمات لقنها آدم من قبل الله تعالى ليقولها طالبا المغفرة وإما كلمات إعلام من الله إياه بأنه عفا عنه"(ابن عاشور، التّحرير والتّنوير، 1/437)، فهي هنا توسّع وإيجاز أيضًا وإن كانت في صيغة الجمع؛ لأنّها دالّة على معانٍ وألفاظٍ أخرى.
الكلمة في سياقها المجازيّ...
إذن! قد تُطلق الكلمة فتدلّ على البناء اللّغويّ المفرد المجرّد من التّركيب، وقد تُقيّد بقيود سياقيّة تجعل منها نصًّا لغويًّا كبيرًا، وقد تكون لفظًا مفردًا يختصر معانيَ كثيرة تتضمّنها، أو أفعالاً كثيرةً تُعبّر عنها، فهي أكبر من حدود الجذر الثّلاثيّ للحروف (ك ل م)، فارتبطت بهذا التأليف البنائيّ بمعانٍ دينيّة واجتماعيّة ونفسيّة، ممّا يمنحها دورًا فاعلاً ومؤثّرًا في السّياق التّداوليّ لها.
وتبقى الكلمة وسيلة تحوّل عالم الغيبِ إلى عالم الواقع المحسوس، فهي جزءٌ من لسانٍ لغويّ ينقلُ أحداث التّاريخ الغائبة إلى الحاضر المشهود، ويحملُ المعاني الحاضرةَ إلى المستقبل بما يشتملُ عليه من حقائق ومعارف وخبرات، وهي وسيلةٌ لإبداع المعاني وابتكار الأشياء، فمن دونها لا وجود ملموسًا للمعنى، ولا تعبيرَ ظاهرًا عن الشّيء، ويتأثّرُ بها سلوك الإنسان وتفكيره، فليس بمستغربٍ أن تكون هذه الكلمة نقطة تحوّلٍ في مسيرة العلاقات بين عالم الغيب وعالم الشهادة، فالصّراع الذي أثبتته الكتب السّماويّة بين الخير والشّر يستخدم الكلمة في إحداث التأثير في مستوى التّفكير العقليّ الذي يوجّه السّلوك أمام التّجاذبات التي تفرضها، فهي مناط التّحكّم في الأحداث، ومناط السّيطرة على مجرياتها، سواءً أكانت هذه الكلمة صوتًا مسموعًا أم وسوسةً عقليّة، لكنّها في المحصّلة تُحيط بالفكر وتشكّله، أو يُحيط بها الفكر ويُشكّلها.
جميل جدا .. من الواضح ان الموضوع كبير ومتشعب وانك حاولت تلملم ما استطعت ، عندي سؤال هل وقفنا على جميع دلالات الكلمة او اللفظ في القرآن الكريم بحيث لا يمكننا ان نقول ان هذه الكلمة لها دلالة لم تعرفها أحد قبل ؟ اذا نحن عندما نقول القرآن لا تنتهي عجائبه نعني التراكيب واستخدام الالفاظ.. ارجو ان لا اكون اسأت الفهم او السؤال .. يحيى البلوشي
ردحذفنشكرك أستاذ يحيى البلوشي على تعليقك الكريم،
حذفوأمّا عن تساؤلك حول الوقوف على جميع دلالات اللفظ في القرآن الكريم، فهو تساؤل يصوّر أنّك قد فهمت مضمون هذه المقالة، وتساؤلك هو محاولة للولوج بتوسّع في فكرة الأصل والتّوسّع اللّغويّ للألفاظ، وهو تساؤل يتّجه بالمقالة إلى زاوية أخرى للنّظر في ألفاظ القرآن الكريم وهي زاوية الإحاطة بدلالة تلك الألفاظ، فإن كنت تقصد (الإحاطة) بمعنى: فهم مدلول تلك الألفاظ في سياقها القرآنيّ والاتّساع الدّلاليّ المستند إلى قرائن لتحديد ما تعنيه الكلمة وما يترتّب على فهمما في سياقها، فالأمر فيه سعة مع وجود ضوابط تحكم توجيه ذلك الاتّساع، فهناك ضوابط نحويّة وصرفيّة، وضوابط الوقف والوصل في تحديد دلالة الألفاظ، وهذا الأمر واضحٌ لدى المهتمّين بدراسة تلك الدّلالات من أصوليّين وفقهاء ولغويّين، وهم قادرون باستخدام تلك الضّوابط على الوصول إلى فهمٍ مُحكمٍ لدلالة اللّفظ وما يترتّب عليه من أحكام وتشريعات.
وإذا أردت التّوسّع في الاطّلاع حول هذا الموضوع، فإليك مجموعة من الأبحاث والدّراسات التي تناولت دلالات ألفاظ القرآن الكريم، ومنها على سبيل المثال لا الحصر:
- دلالة ألفاظ القرآن الكريم عند ابن القيم - عبدالفتاح لاشين السيد (1983)
- اقتران الالفاظ الموهمة بالترادف في القرآن الكريم: بين السياق والدلالة - صلاح أحمد رمضان (2009)
- علم الدلالة و المعاني الشرعية - زينب أحمد أبو النّجا (2010)
- خلاف الفقهاء في دلالة الألفاظ القرآنية - مصطفى أكروم (2011)
- انفتاح الدلالة في القرآن الكريم - غربي بكاي (2012)
- الدلالة القصدية في ألفاظ القرآن الكريم - عبدالجواد البيضاني (2015)
- دلالة الألفاظ وأثرها في العبادات: دراسة مقارنة - سليم يحيى أحمد (2015)
- الاستدلال بأسباب النزول في بيان دلالة الألفاظ - طارق بن هندي الصّاعدي (2019)
وغيرها كثير ...
ولكم فائق التّقدير والاحترام