بقلم/ الدكتور رائد أبو زيد
أكاديمي وتربوي
مدير عام مدارس آيلا العالميّة
عمّان – المملكة الأردنيّة الهاشميّة
يقول ابن منظور، صاحب اللسان: "المُقام والمُقامة: الموضع الذي نقيم فيه، والمُقامة بالضم؛ الإقامة. والمَقامة بالفتح: المجلس والجماعة من الناس. وقال: وأمّا المَقام والمُقام فقد يكون كلُّ واحدٍ منها بمعنى الإقامة، وقد يكون بمعنى موضع القيام، وقوله تعالى: (لَا مَقَامَ لَكُمْ) ([1]) أي لا موضع لكم، وقُرئ لا مُقام لكم بالضم، أي: لا إقامة لكم"([2]).
وبناءً على هذا المعنى حدد الأدباء فيما بعد معنى المقامة لغوياً بمعنى المجلس، أو الجماعة فيه، وقد كان هذا رأي الدكتور شوقي ضيف في كتابه المقامة ([3])، واستشهد بما يُدلِّل على هذا الرأي بقول زهير بن أبي سُلْمى:
وفيهم مقاماتٌ حسانٌ وجوهُها
وأنديةٌ ينتابهُا القولُ والفعلُ
فالمَقَامة هنا جاءت بمعنى: مجلس القبيلة وناديها. أمّا في قول لبيد :
ومقامةُ غُلْبُ الرّقاب ِكأنَّهم
جنٌ لدى بابِ الحصيرةِ قِيامُ
فقد جاءت بمعنى الجماعة التي يضمها المجلس أو النادي ، والحصيرة هنا بمعنى الملك.
وأجمع كلُّ مَنْ كتبَ عن المقامات بأن هذا المعنى كان يطلق على المقامة في العصر الجاهلي، فما خرج المعنى عن المجلس، أو مَن يجتمعون فيه، وأن هذا المعنى لحقه التطور على مر العصور، ولعل هذا التطور كان بفعل تطور الحياة العربية، فشمل المعنى ألواناً من المواعظ والقصص والأحاديث إلى أن استقرَّ معنى المقامة بدلالته الإبداعيّة والفنية عند بديع الزمان الهمذاني، كونه صورة كتابيّة نثريّة لها حدودها البنائيّة التي تبدأ بـ(حدثنا) وتنتهي بالكشف عن صورة البطل، وغالباً ما تنغلق بأبيات شعريّة.
وعند تتبع نشأة المقامات يؤكد صاحب (صبح الأعشى) أن الهمذاني هو من بدأ تأليف المقامات فيقول: "أول مَن فَتَحَ باب عمل المقامات علامةُ الدهر، وأمام الأدب بديع الزمان الهمذاني، فعمل مقاماته المشهورة المنسوبة إليه، وهي غاية البلاغة وعلو الرتبة في الصنعة"([4]). ويرجح معظم أصحاب كتب التراجم أن الهمذاني قد ألف مقاماته في نيسابور، ومن ذلك ما جاء في يتيمة الدهر: "ولما استقرت عزيمته على قصد نيسابور أعانه على حركته وأزاح علله في سفرته فوافاها في سنة اثنين وثمانين وثلاثمائة، ونشر ما بزَّه، وأظهر طَرزَه، وأملى أربعمائة مقامة نحلها أبا الفتح الإسكندري في الكدية وغيرها"([5]).
وهناك طائفة من الباحثين، ذهبوا إلى أن بديع الزمان الهمذاني ليس مبتكرًا لفنّ المقامات، وكان أول هؤلاء الحصري، حيث ذكر في كتابه (زهر الآداب وثمر الألباب) تحت عنوان: كيف استوحى صنع المقامات؟ فقال: " ولما رأى [الهمذاني] أبا بكر محمد بن الحسين بن دريد الأزدي أغرب بأربعين حديثاً. وذكر أنه أستنبطها من ينابيع صدره، واسْتَنْخبَها من معادن فكره، وأبداها للأبصار والبصائر، وأهداها للأفكار والضمائر، في معارض أعجمية، وألفاظ حُوشية. فجاء أكثر ما أظهر تَنْبُو عن قبول الطباع، ولا ترفع حُجبَها الأسماع، وتوسع فيها، إذ صرَّف ألفاظها ومعانيها في وجوه مختلفة، وصروف متصرفة، عارضها بأربعمائة مقامة في الكدية تذوب ظرفاً، وتقطر حسناً، لا مناسبة بين المقامتين لفظاً ولا معنى، وعطف مُسَاجلتها، ووقفَ مناقلتها بين رجلين سمَّى أحدهما: (عيسى بن هشام) والآخر: (أبا الفتح الإسكندري)، وجعلهما يتهاديان الدُّر، ويتنافثان السَّحر، في معان تُضْحكُ الحزين، وتحركُ الرصين، يتطلّع فيها كل طريفة، ويُوقف منها على كلِّ لطيفة، وربما أفرد أحدهما بالحكاية وخصَّ أحدهما بالرواية"([6]).
هذا الرأي الذي ذهب إليه الحصري القيرواني، جعل بعضهم يأخذ به، بل ويؤمن به، ومن هؤلاء زكي مبارك الذي يرى أن مبتكر هذا الفن هو ابن دريد المتوفى سنة (321هـ) وأنّه لم يجد من أفرد هذه الفكرة بجهد خاص ([7]).
ويذهب الدكتور شوقي ضيف إلى هذا الرأي، حيث يرى أن هناك صلة قوية بين أحاديث ابن دريد، ومقامات الهمذاني، ويظن أن الأحاديث "هي التي ألهمته مقاماته"([8])، فيقول: "ويستطيع القارئ أن يرى ذلك في وضوح إذا رجع إلى كتاب الأمالي لأبي علي القالي، وهو الكتاب الذي يحتفظ بأحاديث ابن دريد الأربعين"([9]).
وبالعودة إلى ما أراده الدكتور شوقي ضيف، يلحظ القارئ الاختلاف الكبير بين أحاديث ابن دريد ومقامات الهمذاني، على الرغم من حديث الكثيرين عن صلة واضحة بين العملين، ولعل مثل هذه القراءة هي ما دفعت الدكتور شوقي ضيف إلى الاعتراف بالمخالفة بين أحاديث ابن دريد ومقامات البديع فيقول:" على أنه ينبغي أن نلاحظ أن أحاديث ابن دريد تخالف مقامات الهمذاني في موضوعها، إذ إنّ ما رواه القالي في كتابه الأمالي منها ما يدور غالبًا حول حكايات عربية قديمة، للتاريخ والحب فيها نصيب، بينما أقاصيص بديع الزمان تدور حول التسول والكدية"([10]).
ومع هذا فإن العلاقة بين العملين واضحة، وهذا ما أراده الدكتور شوقي ضيف عندما قال: "فالعلاقة بين العملين واضحة، أولا: من حيث الاسم، فمن معاني مقامة: (الحديث)، وتجمع على (أحاديث)، وهو الاسم نفسه الذي اقترحه ابن دريد لأقاصيصه، وثانيًا: من حيث الغاية، فهما ألفتا لغاية واحدة هي تعليم الناشئة"([11]).
وهذا ظنّ شوقي ضيف الذي أثبته في كتابه المقامة عندما تحدث عن مجالس بديع الزمان الهمذاني مع طلبته فقال: "ونظن ظنًّا أنه كان يعرض عليهم [أي: تلاميذ الهمذاني] أحاديث ابن دريد الأربعين التي اتجه بها إلى غاية تعليم الناشئــــة أساليب العرب ولغتهم"([12]).
ومن الذين تحدثوا عن مبتكر هذا الفن الكاتب جرجي زيدان، الذي كان يرى أن مبتدع فن المقامات هو أحمد بن فارس، ومما جاء عنده في هذا الباب قوله:" وله فضل التقدم في وضع المقامات؛ لأنه كتب رسائل اقتبس العلماء منها نسخة، وعليه اشتغل بديع الزمان الهمذاني"([13]).
وإذا أردنا الانتقال إلى الجانب الآخر لمطالعة الآراء التي تذهب إلى أن مبتكر هذا الفن هو بديع الزمان الهمذاني، فإننا يجب أن نقف أولاً عند رأي الحريري الذي أثبت فيه أن البديع هو أول من أنشأ فن المقامات، فجاء في مقدمة مقاماته :"... وبعدُ فإنَّه قد جرى ببعض أندية الأدب الذي ركدتْ في هذا العصر رِيحُهُ، وَخَبَتْ مَصَابيحُهُ، ذِكرُ المقامات التي ابتدَعَها بديعُ الزمان، وعلامةُ همذان – رحمُه اللهُ تعالى – وعَزا إلى أبي الفتح الإسكندري نشأتها، وإلى عيسى بن هشام روايتها، وكلاهما مجهول لا يُعرف، ونكرة لا تُتَعرّف... ولله درُّ القائل:
فلو قبل مَبكاها بَكيتُ صبابــــــةً
بسعدى شفيتُ النفسَ قبل التَّنَدُّم
ولكن بكتْ قبلي! فهيّج لي البُكا
فالحريري صاحب المقامات المشهورة يقرر في خطبة كتابه أن مبتدع هذا الفن هو بديع الزمان الهمذاني، وهو قريب عهد بالهمذاني ولم يشر إلى أوليات هذا الفن؛ وأن ما كان يهمه هو تأكيد جمال هذا الفن الذي أبدعه بديع الزمان وعُرف به.
ومن الذين أسهموا في هذا الباب مارون عبود الذي يبدو متعصّبًا لرأيه حول مبتكر هذا الفن، حيث يرى أن بديع الزمان الهمذاني هو مبتدع فن المقامات على الرغم من إثارته لكثير من الشكوك حول بديع الزمان الهمذاني، هذه الشكوك المتعلقة باسمه وباسم والده أو فطنته وذكائه، ومع كلّ هذه الشكوك، فهو ينكر أن يكون غير البديع له يد في خطة المقامات فيقول: " إن خطة المقامات هي من عمل البديع، فلا لابن فارس، ولا لابن دريد في صنعها، فالهمذاني هو الذي ألبسها هذا الطراز الموشى، وعلى طريقه هذه التي شقها سارت عجلة الأدب ألف عام. فعبثا نحاول العثور على أثر لهذه الخطة عند غير البديع"([15]).
لقد امتد الجدال حول مبتدع فن المقامات إلى إنكار بعض المجايلين للهمذاني عليه هذه المقامات وعددها ومنهم أبو بكر الخوارزمي، وأبو الحسن البغوي، حيث ردَّ عليهما الهمذاني في رسائله فقال: "وما كنت لأكشف تلك الأسرار، وأهتك هذه الأستار، وأظهر منه العار والعوار، لولا ما بلغنا عنه من اعتراض علينا فيما أملنا، وتجهيز قَدْحٍ علينا فيما رَوَينا، من مقامات الإسكندري من قوله إنا لا نحسن سواها، وإنا نقف عند منتهاها، ولو أنصف هذا الفاضل لراض طبعه على خمس مقامات، أو عشر مفتريات، ثم عرضها على الأسماع والضمائر وأهداها إلى الأبصار والبصائر، فإن كانت تقبلها ولا تزُجُّها، أو تأخذها ولا تمُجُّها، كان يعترض علينا بالقَدْحِ، وعلى إملائنا بالجرح . أو يقصر سعيه ويتداركه وَهْنهُ فيعلم أنَّ من أملى من مقامات الكدية أربعمائة مقامة لا مناسبة بين المقامتين لا لفظاً ولا معنًى وهو لا يقدر منها على عشر حقيقٌ بكشف عيوبه، والسلام"([16]).
هذا القول الصريح من جانب صاحب الشأن يقطع الشك باليقين، ويضع حداً لجدليّة ولّدتها صورة المقامات وتميزها الإبداعي الذي لا يستطيعه غير واحدٍ مثل البديع.
الدّكتور رائد أبو زيد
الهوامش
([1]) سورة الأحزاب، الآية (13).
([2]) ابن منظور، محمد بن مكرم (711هـ): لسان العرب، دار صادر، بيروت، ط3، 1414هـ، 12/498.
([3]) شوقي ضيف (2005م): المقامة، دار المعارف، مصر، ط3، ص7.
([4]) القلقشندي، أحمد بن علي (821هـ): صبح الأعشى في صناعة الإنشاء، دار الكتب العلمية، بيروت، 14/124 – 125.
([5]) أبو منصور الثّعالبيّ، عبد الملك بن محمد (429هـ): يتيمة الدهر في محاسن أهل العصر، تحقيق مفيد محمد قمحية، دار الكتب العلمية، بيروت، 1983م، 4/294.
([6]) أبو إسحاق الحصريّ، إبراهيم بن علي بن تميم (453هـ): زهر الآداب وثمر الألباب، دار الجيل، بيروت، 1/305 – 306.
([7]) زكي مبارك (1952م): النثر الفني في القرن الرابع الهجري، مطبعة دار الكتب المصرية، القاهرة، 1934م، ص198 – 199.
([8]) شوقي ضيف، المقامة، مصدر سابق، ص17.
([9]) المرجع نفسه.
([10]) شوقي ضيف (2005م): الفن ومذاهبه في النثر العربي، دار المعارف، القاهرة، ط10، ص248.
([11]) المرجع نفسه.
([12]) شوقي ضيف، المقامة، مصدر سابق، ص16.
([13]) جرجي زيدان: تاريخ آداب اللغة العربية 4/1، دار القلم للطباعة والنشر والتوزيع، لبنان، بيروت، 2020م، ص739.
([14]) الحريري، أبو محمد القاسم بن علي (516هـ): مقامات الحريري، مطبعة المعارف، بيروت، 1873م، ص12 – 16.
([15]) مارون عبود: بديع الزمان الهمذاني، مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة، القاهرة، جمهورية مصر العربيّة، 2013م، ص35.
([16]) المرجع نفسه، ص67.