بقلم/ الدّكتور عبدالكريم اعقيلان
زخرت كتب اللّغة العربيّة بأحداث وقصص تصوّر حركة التّحوّل في مسيرة رسم معالم النّظام اللّغويّ بما يشتمل عليه من أصواتٍ وكلماتٍ وتراكيب ودلالات، ويهتمّ الباحثون في تاريخ اللّغات بهذه الحركة لتحقيق غاية الكشف عن أصول هذه الأنظمة، وأشكال التّغيير الحاصلة فيها، والتّنبّؤ بالتّغييرات المحتملة في تلك الأنظمة، وإلى جانب ذلك، يأتي الكشف عن ملامح التّلاقي بين الأمم والشّعوب في مظاهر هذه الأنظمة وتوابعها تأثيرًا وتأثّرًا.
أوّليّة الأحداث وجدليّة الثّبوت
يطفو على سطح البحث التّاريخي مصطلح (الأوائل) إذ استُخدم هذا المصطلح بصورة المفرد (أوّل)، وهو مصطلحٌ يحمل في طيّاته جدليّة الثّبوت بنوعيه: القطعيّ والظّنّيّ، مع اختلالٍ في معياريّة المقياس الذي اعتُمد للحكمِ على هذه الأوّليّة، في ظلّ اتّساع مساحة الاحتكاك البشريّ وغياب ضمان حصول العلم الشّامل بجميع الأحداث التّاريخيّة، على الرّغم من السّعة الحضاريّة التي رسمتها صحائفُ الكتب المنقولة عن الأوائل بصورةٍ فائقة الإبداع تَذهَل العقول...
لسان آدم عليه السّلام وأوّليّة العربيّة
هذه أوّل قصّة حقيقيّة في تاريخ البشريّة وثّقتها الكتب السّماويّة، ويُعد الحديث عن اللّسان الذي تحدث به آدم عليه السّلام بوصفه أوّل كائنٍ بشريّ في الكون، مثار جدلٍ في ماهيّة اللّغة التي نطق بها آدم عليه السّلام، وتحكي بعض المصادر العربيّة عن دعوى أنّ اللّغة العربيّة هي لسان آدم عليه السّلام، إذ " ادعى العرب أن العربية هي لغة آدم أبي البشر، وجاء في أساطيرهم أن آدم رثى ابنه هابيل بأبيات شعر عربي"([1])، بينما تطالعنا مصادر أخرى تحكي عن أوّليّة أخرى للعربيّة تُنسبُ إلى يعرب بن قحطان، " والقائلون إن يعرب هو جدّ العربية وموجدها، عاجزون عن التوفيق بين رأيهم هذا ورأيهم في أن العربية قديمة قدم العالم، وأنها لغة آدم في الجنة، ثم هم عاجزون أيضًا عن بيان كيف كان لسان أجداد (يعرب) وكيف اهتدى (يعرب) إلى استنباطه لهذه اللغة العربية، وكيف تمكن من إيجاده وحده لها من غير مؤازرة ولا معين؟"([2]).
وما يمكنني أن أقوله في هذه القصّة، إنّ خلق آدم عليه السّلام غير مجرى تاريخ اللّغات، فنقلها من الجانب الغيبيّ إلى الجانب الحسّي الإدراكيّ بما تفرضه من نظامٍ صوتيّ ودلاليّ، يستدعي السّعي لاكتسابها وتمثّل معانيها، بدليل أنّ الله سبحانه وتعالى عندما سأل الملائكة عليهم السّلام أن يُنبّؤوه بأسماء الأشياء أنطق الله آدم عليه السّلام بها فكانت نقلةً تاريخيّة في مسيرة العلاقة بين اللّغة والفكر، ومبتدأً لزمنٍ تُحدِث فيه الكلمةُ أثرَها... وهذا هو الثّابت القطعيّ في هذه المسألة، وما سواها ظنٌّ لا يستندُ إلى دليلٍ قطعيّ... وما قصّة آدم عليه السّلام إلاّ أوّليّة الأحداث الإنسانيّة التي تسير وفق سننٍ إلهيّة ثابتةٍ يمكن إدراكها بتتبّع حركة التّاريخ...
ملوك مدين وأوّليّة الكتابة العربيّة
تأتي الكتابة العربيّة على الطّرف الآخر من الحديث عن جدليّة الثّبوت، وقد وردت قصص كثيرة حول أوّليّة حدوثها، إذ " يقال: إن أول من وضع الكتابة العربية قوم من الأوائل نزلوا في (عدنان بن أدد) واستعربوا ووضعوا هذه الكتابة على عدد حروف أسمائهم، وكانوا ستة نفر، أسماؤهم: أبجد، هوز، حطي، كلمن، سعفص، قرشت، وإنهم ملوك مدين، ورئيسهم (كلمن)، هلكوا يوم الظلة مع قوم شعيب"([3]).
إنّ هذه القصّة لا يُمكن إثباتها بدليلٍ قطعيّ، فأخبار أولئك القوم قد انقطع دابرها، إلاّ أنّ بعض الباحثين يذهبون إلى أنّ ترتيب هذه الحروف قد أخذه العربُ من الأنباط أو اليهود، "ويظهر من الروايات العربية القديمة أن كتّاب الجاهلية المتصلة بالإسلام وكتّاب صدر الإسلام كانوا يسيرون في تعلم الكتابة على طريقة (أبجد هوز)، أي: على طريقة الآراميين والنبط والعبرانيين"([4]).
ومع ذلك، نجدُ الجدليّة تتسرّب في إثبات أوّليّة الكتابة العربيّة، بنسبتها إلى (نصر بن عاصم) و(يحيى بن يعمر) في عهد (عبدالملك بن مروان)، وفق التّرتيب الذي اعتمده واضعوا المعاجم اللّغويّة([5])، وبين قصّة (أبجد هوّز) ووضع (نصر بن عاصم) و(يحى بن يعمر) ثمّة حلقةٌ تاريخيّة مفقودة، فهل عُرفت الكتابة في أوّليتها بكامل خصائص رسمها وتعالق رسم الكلمات بدلالاتها...؟ ففي الحقيقة لا قطعيّة في إثبات هذا الأمر، وإن كان ثمّة قطعيّة في ثبوت نقش (أم الجمال) الذي يعود إلى عام 270 ميلاديّة وهو قريبٌ من الخطّ العربيّ، أو (نقش النّمارة) وهي "أول كتابة وأقدم كتابة عثر عليها حتى الآن مدونة باللهجة العربية الشمالية القريبة من لهجة القرآن"([6])، و(نقش حَرّان) الذي يعود إلى عام 568م، وهو"نص دُوّن بلهجة القرآن الكريم"([7])، إلاّ أنّ الحلقة تبقى مفقودة فيما قبل هذه الفترات الزّمنيّة المثبتة... حتى كان من المذاهب من اتّجه إلى توقيفيّة الكتابة العربيّة، شأنها شأن اللّسان العربيّ... واتّجاهٌ قال بفكرة التّطوّر التّاريخي للكتابة العربيّة ([8])... وكلا الاتّجاهين ظنّيّ الثّبوت...
وبرأيي، فإنّ قصّة (ملوك مدين) وما يحاك حولها من استعارة أسمائهم هي قصّة لا سبيل للقطع أو الظّن بثبوتها، فلا شيء ثابت في قصّة نشأة الكتابة العربيّة سوى أنّها محاولة لتصوير الأصوات المنطوقة والتّعبير عن المعاني والأغراض... وحركة التّطور التي وصفت بها نشأتها هي في أحد جوانبها حركة تطّورٍ للأدوات المستعملة في رسمها وتطوّر لأسباب الحاجة إلى تمييز معالمها...
والحمد لله ربّ العالمين
الهوامش
([1]) أحمد رضا: معجم متن اللغة (موسوعة لغوية حديثة)، دار مكتبة الحياة – بيروت، 1958م، 1/28.
([2]) جواد علي: المفصل فى تاريخ العرب قبل الإسلام، دار الساقي، ط4، 2001م، 1/15.
([3]) الحسن بن محمد بن الحسن الصغاني: التكملة والذيل والصلة لكتاب تاج اللغة وصحاح العربية، تحقيق إبراهيم إسماعيل الأبياري، مراجعة محمد خلف الله أحمد، مطبعة دار الكتب، القاهرة، 1971م، 2/194.
([4]) جواد علي: المفصل فى تاريخ العرب قبل الإسلام، 15/182.
([5]) السّابق نفسه.
([6]) السّابق نفسه، 15/176.
([7]) السّابق نفسه.
([8]) محمود فهمى حجازى: علم اللغة العربية، دار غريب للطباعة والنشر والتوزيع، ص163.