بقلم/ الدّكتور عبد الكريم عبد القادر اعقيلان
تمهيد
الدّلالة هي المعنى المستنبط من الألفاظ والتّراكيب، وتقوم على مبدأ الرّبط بين عنصرين: أحدهما (الدّالّ) والآخر (المدلول)، ولذلك عرّفها الشّريف الجرجانيّ بقوله: " الدلالة: هي كون الشيء بحالة يلزم من العلم به العلم بشيء آخر، والشيء الأول هو الدّال، والثاني هو المدلول"([1])، وقوله: (كون الشّيء بحالة) يدلّ على ارتباط هذا الشّيء بماهيّة معيّنة تستلزم أن يدلّ معها على شيءٍ آخر، أو العلم بشيءٍ آخر، وهذه الماهيّة قد تكونُ بنية اللّفظ، أو سياق تركيبه، فلفظ (عالم)، من حيث البنية تدلّ على اسم الفاعل، ولكن ليس كلّ ما جاء على هذا الوزن عُدّ اسم فاعلٍ، فقد تأتي بنية فاعل دالّة على غير اسم الفاعل، نحو قوله تعالى: (ليحقّ الحقّ ويبطل الباطل) – (الأنفال آية 8)، فالباطل هنا تدلّ على المصدر اعتمادً على الحالة أو السّياق الذي ورد فيه، ولذلك؛ فرّق العلماء بين أنواع الدّلالات، فهناك الدّلالة المعجميّة، والدّلالة الصّرفيّة، والدّلالة النّحويّة أو التّركيبيّة، فنسبة الدّلالة لتلك الأنواع يُقصد بها نسبتها إلى الحالة أو السّياق الذي يُحدّد العلاقة بين الدّالّ والمدلول، وبذلك انشعبت دراسة الدّلالة إلى قسمين رئيسين([2]):
الأوّل: دراسة العلاقة بين الدّالّ والمدلول، وميدانها البنية المفردة للألفاظ، سواءً أكانت بنيةً معجميّة، أو صرفية.
والثّاني: دراسة السّياق الذي تظهر فيه هذه العلاقة، وميدانها التّركيب الذي ترد فيه البنية المفردة للألفاظ.
وفي هذه المقالة، نعرض دلالة (الامتناع)، من خلال الإشارة إلى البناء الذي يدلّ عليها بمفردها، وكذلك السّياقات التّركيبيّة الشّرطيّة الدّالّة عليها، وغرضنا من ذلك بيان أهمّيّة فهم هذا المدلول أو هذه الدّلالة في توضيح بعض السّياقات التّركيبيّة التي قد يشكل فهما.
البنية الدّالّة على الامتناع
عند دراسة أبنية مصادر الأفعال الثّلاثيّة، يظهر في محاولة وصف معياريّة تلك الأبنية ربطُها بدلالات معيّنة تستندُ إلى معيار الكثرة في الاستعمال، وأبرز الأبنية التي تدلّ على الامتناع هو بناء (فِعال)، يقول فاضل السّامرّائيّ عن هذا البناء: "ويُصاغ للدّلالة على امتناع"([3])، مستشهدًا بكلام سيبويه (180هـ) إذ يقول: " ومما تقاربت معانيه فجاؤوا به على مثالٍ واحد نحو: الفِرار والشِّراد والشِّماس والنِّفار والطِّماح، وهذا كله مُباعدة... والعرب مما يبنون الأشياء إذا تقاربت على بناء واحد"([4])، وقد أشارت خديجة الحديثيّ (2018م) إلى قياسيّة هذا البناء في هذه الدّلالة، وقيّدت قياسيّة دلالته على الامتناع بأن يكون من فعلٍ لازمٍ على الأبواب (فعَل – يفعُل)، و(فعَل – يفعِل)، و(فعَل – يفعَل)([5])، ويظهرُ أنّ هذا التّقييد بأبواب الفعل اللاّزم له أهمّيّة في تقييد دلالة (فِعال) على الامتناع، إذ لا تقتصر دلالته على ذلك، بل قد يدلّ على انتهاء الزّمان من باب (فعَل – يفعَل) نحو: (قطَع – قِطَاع)، وقد أورد ابن مالك (672هـ) في ألفيّته قياسيّة هذا البناء في الدّلالة على الامتناع، إذ نظم قائلاً:
وفعل اللاّزم مثل (قعدا)
له (فُعول) باطّراد كـ (غَدا)
ما لم يكن مستوجبًا (فِعالاً)
أو (فَعَلانا) فادْرِ أو (فَعَالا)
فأوّلٌ لذي امتناع ٍكـ(أبى)
والثّانِ للذي اقتضى تقلبًا
يقول ابن عقيل (769هـ) في شرحه: " فالذي استحق أن يكون مصدره على (فِعال) هو كل فعل دل على امتناع كـ(أبَى إِباءً) و(نفر نِفارًا) و(شرَد شِرادًا)، وهذا هو المراد بقوله: فأوَّل لذي امتناع"([6]).
دلالة فِعال على الامتناع في القرآن الكريم
أشار ابن عقيل في شرحه على ألفيّة ابن مالك إلى قراءة (وكذّبوا بآياتنا كذّابًا) – (النّبأ آية 27)، إذ وردت قراءة بتخفيف (الذّال) (كِذَابًا)، يقول الفّرّاء (207هـ): "خففها عليّ بن أَبِي طَالِب رحمه اللَّه [ورضي الله عنه]: «كِذَّاباً»، وثقّلها عاصم والأَعْمَش وأهل المدينة والحسن البَصْرِيّ"([7]).
وقد يُظنّ أنّ الاعتماد على البناء وأبواب الفعل (فعل -يفعل) يكفي للحكم بمعياريّة هذا البناء في دلالته على الامتناع، إلاّ أنّ ثمّة قيدٌ سياقيٌّ يُخرج هذا البناء إلى دلالةٍ أخرى هي المغالبة، التي تدلّ على الاشتراك في المدافعة أو الاشتراك في الفعل، وذلك مثل قول الأعشى في (كِذَاب) على (فِعَال):
فصدقتها وكذبتها
والمرء ينفعه كِذَابه
إذ يُستشهدُ بهذا البيت على دلالة (كذاب) على المغالبة، ولعلّ قرينة مطابقة المصدر لفعله هي ما دفعت إلى القول بهذا المعنى، إذ يقول سيبويه: " والغلاب وهو في معنى المغالبة من قولك: غالبته غلاباً"([8])، وجاء عند الأستراباذيّ (686هـ) ما يؤكّد هذه الفكرة إذ يقول: " وبَابُ المــُغَالَبَةِ يُبْنَى عَلى (فَعَلْتُهُ أَفْعُلُهُ) - بالضم – نَحْوَ: (كَارَمَنِي فكَرَمْتُهُ أَكْرُمُهُ)، إلاّ باب (وَعَدْتُ وَبِعْتُ وَرَمَيْتُ)، فَإِنَّهُ (أَفْعِلُهُ) بالكسرِ"([9]).
وبناءً على ذلك؛ نخلص إلى أنّ دلالة البناء (فِعَال) قياسيّة في دلالتها على الامتناع من خلال الضّوابط الآتية:
1. أن يكون من الفعل اللاّزم.
2. أن يكون من الأبواب: (فعَل – يفعُل)، و(فعَل – يفعِل)، و(فعَل – يفعَل).
3. أن يستندَ إلى سياق تركيبيّ لا يخرجه إلى دلالةٍ أخرى كأنْ لا يرد معه في التّركيب فعلٌ من جنسه.
دلالة الامتناع في التّركيب الشّرطيّ
بعيدًا عن البنية المفردة، تأتي دلالة الامتناع مرتبطةً بسياق تركيبيّ، وأسلوب الشّرط هو أبرز الأساليب التي يأتي فيها الامتناع خاصّةً مع أدواته (لو، لولا، لوما)، ولكل أداةٍ من هذه الأدوات دلالة على الامتناع لكنّها تختلف في قيد ذلك الامتناع.
أوّلاً: الامتناع في (لو)
توصف (لو) بأنّها حرف امتناع لامتناع، أي: امتناع الجواب لامتناع الشّرط، وذلك نحو قوله تعالى: (لو كان فيهما آلهةٌ إلاّ الله لفسدتا) – (الأنبياء آية 22)، فالآية تدلّ على امتناع وجود آلهة متعدّدة لهذا الكون لامتناع وجود الفساد في الواقع، فالنّاظرُ العالمُ في هذا الكون يظهرُ له ذلك النّسق الفريد في النّظام الكونيّ بجميع أجزائه، فيمتنعُ أن يكون لهذا النّظام البديع في السّماوات والأرض أكثر من إلهٍ لامتناع وجود الفساد في الحقيقة، يقول الزّمخشريّ (538هـ): " وفيه دلالة على أمرين، أحدهما: وجوب أن لا يكون مدبرهما إلا واحدا. والثاني: ألاً يكون ذلك الواحد إلاّ إيًاه وحده، لقوله: إِلَّا اللَّهُ. فإن قلت: لم وجب الأمران؟ قلت: لعلمنا أنّ الرعية تفسد بتدبير الملكين لما يحدث بينهما من التغالب والتّناكر والاختلاف"([10])، وقد استعير هذا الامتناع ليكون دليلاً على وحدانيّة الله تعالى، واصطُلح على تسميته بـ (دليل التّمانع) عند المتكلّمين([11])، وتنطبق هذه الدلالة على جميع السّياقات التي ترد فيها (لو) الشّرطيّة.
ثانيًا: الامتناع في (لولا)([12])
(لولا) هي حرف امتناع لوجود، ويُقصد بذلك امتناع الجواب لوجود الشّرط، وهي بهذه الدّلالة تأتي بأسلوبٍ تركيبيّ يتبعها فيه الاسم على أنّه مبتدأٌ وخبره محذوفٌ تقديره: (موجود)، وذلك نحو: (لولا الله لما خُلقْنا)، والتّقدير: (لولا الله موجودٌ لما خُلقْنا)، فقد امتنع أن نكون غير مخلوقين لوجود الله الذي خلقنا، وأودّ أن أركّز الحديث عن هذه الدّلالة بعيدًا عن أحكام (لولا) النّحويّة الخاصّة بارتباطها بالضّمائر([13]).
ومن الشّواهد البارزة على هذه الدّلالة ما جاء في سورة يوسف وهو قوله تعالى: "ولقد همّت به وهمّ بها لولا أن رأى برهان ربّه) – (الآية 24) والهمّ في اللّغة يعني: إرادة الشّيء، يقول ابن منظور (711هـ): "هَمَّ بالشيءَ يَهمُّ هَمّاً: نَوَاهُ وأَرادَه وعزَم عَلَيْه"([14])، وعليه لا يصحّ في حقّ نبيّ الله المعصوم يوسف – عليه السّلام – أن يكون قد حصل منه ذلك، وقد قال الله تعالى عنه في السّورة والآية نفسها: (كذلك لنصرف عنه السّوء والفحشاء إنّه من عبادنا المخلصين)، ولذا؛ فإنّ الأخذ بدور (لولا) في دلالتها على الامتناع يوضّح المعنى المقصود من الآية.
فتركيب جملة (لولا) هو كما يأتي:
(همّ بها لولا أن رأى برهان ربّه)، وبترتيب الجملة بصورة أخرى، تصبح: (لولا أن رأى برهان ربّه لهمّ بها)، والتّقدير: (لولا رؤية برهان ربّه موجودًا لهمّ بها) فالهمّ ممتنعٌ وهو جواب (لولا) لوجود الشّرط وهو (رؤية برهان ربّه)، ومن هنا، لا وجود للهمّ في نفس يوسف – عليه السّلام – مطلقًا، وهذا مؤكّدٌ في نهاية الآية إذ يؤكّد آخر الآية أوّلها.
ومن خلال ما سبق، يظهر الآتي:
1. دلالة الامتناع في التّركيب الشّرطيّ تتعلّق بـحروف الشّرط: (لو)، (لولا)، (لوما).
2. دلالة (لو) على الامتناع تتعلّق بامتناع الجواب لامتناع الشّرط
3. دلالة (لولا) و(لوما) على الامتناع تتعلّق بامتناع الجواب لوجود الشّرط
وفي الختام...
فإنّ دلالة الامتناع تظهر في الاستعمال على اللّغويّ في جانبين: الجانب الأوّل: مستوى اللفظ، وقد ظهرت هذه الدّلالة في بناء (فِعَال)، وقد ربط العلماء هذا البناء بهذه الدّلالة استنادًا إلى ثلاثة عناصر:
- ربط الدّلالة بهذا البناء بالاستعمال اللّغويّ القائم على الكثرة.
- ربط هذه الدّلالة بهذا البناء بالاستناد إلى مرجعيّة أبواب الأفعال اللاّزمة.
- الاستناد إلى سياق تركيبيّ لا يُخرج البناء إلى دلالة أخرى.
وأمّا الامتناع التّركيبيّ المتعلّق بالسّياق الشّرطيّ، فهو امتناع متعلّق بدلالة ارتباط قيود لفظيّة بسياق متكامل، وهي تتجّه اتّجاهين:
- الأوّل: الامتناع النّاتج من امتناع، ويتمثّل هذا الاتّجاه في الحرف (لو)
- الثّاني: الامتناع النّاتج من وجود، ويتمثّل هذا الاتّجاه في الحرفين (لولا) و(لوما)
وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين
الهوامش
([1]) الشريف الجرجاني، علي بن محمد (816هـ): كتاب التعريفات، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، 1983م، ص104.
([2]) درست الدّلالة دراسات متعدّدة، من أبرزها: دراسة أحمد عمر مختار (علم الدّلالة)، ودراسة فايز الدّاية (علم الدّلالة العربيّ النّظريّة والتّطبيق)، ويمكن الرّجوع إلى تلك الدّراسات للتّوسّع في هذا الموضوع.
([3]) السّامرّائي، فاضل صالح: معاني الأبنية في العربيّة، دار عمار للنشر والتوزيع، عمّان، الأردن، ط2، 2007م، ص26.
([4]) سيبويه، عمرو بن عثمان بن قنبر (180هـ): الكتاب، تحقيق عبد السلام هارون، مكتبة الخانجي، القاهرة، 1988م، 4/12.
([5]) الحديثي، خديجة (2018م): أبنية الصّرف في كتاب سيبويه، منشورات مكتبة النهضة، بغداد، 1965م، ص213.
([6]) ابن عقيل، عبد الله بن عبد الرحمن العقيلي (769هـ): شرح ابن عقيل على ألفية ابن مالك، تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد، دار التراث - القاهرة، دار مصر للطباعة، سعيد جودة السحار وشركاه، ط20، 1980م، 3/125.
([7]) الفرّاء، أبو زكريا يحيى بن زياد (207هـ): معاني القرآن، تحقيق أحمد يوسف النَّجَاتي ومحمد علي النجار وعبد الفتاح إسماعيل الشلبي، دار المصرية للتأليف والترجمة – مصر، 3/229.
([8]) سيبويه (180هـ): الكتاب، مصدر سابق، 4/130.
([9]) الرّضي الأستراباذي، محمد بن الحسن (686هـ): شرح شافية ابن الحاجب، تحقيق محمد نور الحسن ومحمد الزفزاف ومحمد محيي الدّين عبد الحميد، دار الكتب العلمية بيروت – لبنان، 1975م، 1/70.
([10]) الزّمخشريّ، أبو القاسم محمود بن عمرو (538هـ): الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل، دار الكتاب العربي، بيروت، ط3، 1407هـ، 3/110.
([11]) السّابق نفسه.
([12]) وتدل (لوما) على الامتناع الذي تدلّ عليه لولا.
([13]) إذ قد يتبعها ضمير رفعٍ فيأخذ حُكم الرّفع ذاته وهو قياسيّ، وقد يتبعها ضميرُ نصبٍ متّصل خلافًا للقياس يَخرجُ إلى الجرّ بعدّها حرف جرّ. يُنظر: سيبويه (180هـ): الكتاب، مصدر سابق، 2/373.
([14]) ابن منظور، محمد بن مكرم (711هـ): لسان العرب، دار صادر، بيروت، 1414هـ، 12/620.